ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك ، فى بيان مصير هذه الروح ، التى توشك أن تستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية فتقول : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } .
والروح : بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة .
أى : فأما إن كان صاحب هذه النفس التى فارقت الدنيا ، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات . . . فله عندنا راحة لا تقاربها راحة ، وله رحمة واسعة ، وله طيب رائحة عند قبض روحه ، وعند نزوله فى قبره ، وعند وقوله بين أيدينا للحساب يوم الدين ، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وقوله : فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرّبِينَ فَرَوْحَ وَرَيْحانٌ يقول تعالى ذكره : فأما إن كان الميت من المقرّبين الذين قرّبهم الله من جواره في جنانه فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ يقول : فله روح وريحان .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار فَرَوْحٌ بفتح الراء ، بمعنى : فله برد . وَرَيْحانٌ يقول : ورزق واسع في قول بعضهم ، وفي قول آخرين فله راحة وريحان وقرأ ذلك الحسن البصريّ «فَرُوحٌ » بضم الراء ، بمعنى : أن روحه تخرج في ريحانة .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالفتح لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، بمعنى : فله الرحمة والمغفرة ، والرزق الطيب الهنّي .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ فقال بعضهم : معنى ذلك : فراحة ومستراح . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ يقول : راحة ومستراح .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال : يعني بالريحان : المستريح من الدنيا وَجَنّةُ نَعِيمٍ يقول : مغفرة ورحمة .
وقال آخرون : الرّوح : الراحة ، والرّيْحان : الرزق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال : راحة . وقوله : وريحان قال : الرزق .
وقال آخرون : الرّوْح : الفرح ، والرّيْحان : الرزق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال : الرّوْح : الفرح ، والرّيحان : الرزق .
وأما الذين قرأوا ذلك بضم الراء فإنهم قالوا : الرّوح : هي رُوح الإنسان ، والرّيحان : هو الريحان المعروف . وقالوا : معنى ذلك : أن أرواح المقرّبين تخرج من أبدانهم عند الموت برَيحان تشمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال : تخرج رُوحه في ريحانة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية فأما إنْ كانَ مِنَ المقرّبين قال : لم يكن أحد من المقرّبين يفارق الدنيا ، والمقرّبون السابقون ، حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ، ثم يُقبض .
وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح الراء : الرّوْح : الرحمة ، والرّيحان : الريحان المعروف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال : الروح : الرحمة ، والريحان : يُتَلَقى به عند الموت .
وقال آخرون منهم : الرّوْح : الرحمة ، والرّيحان : الاستراحة . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ الرّوْح : المغفرة والرحمة ، والرّيحان : الاستراحة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن منذر الثوريّ ، عن الربيع بن خثيم فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرّبِينَ قال : هذا عند الموت فَرَوْحٌ وَرَيحانٌ قال : يُجاء له من الجنة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، في قوله : فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَربِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنةُ نَعِيمٍ قال : ذلك في الاَخرة ، فقال له بعض القوم قال : أما والله إنهم ليرون عند الموت .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا قُرة ، عن الحسن ، بمثله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي : قول من قال : عُني بالرّوْح : الفرح والرحمة والمغفرة ، وأصله من قولهم : وجدت رَوْحا : إذا وجد نسيما يَسَترْوح إليه من كَرَبِ الحرّ . وأما الرّيحان ، فإنه عندي الريحان الذي يُتَلقى به عند الموت ، كما قال أبو العالية والحسن ، ومن قال في ذلك نحو قولهما ، لأن ذلك الأغلب والأظهر من معانيه .
وقوله : وَجَنّةُ نَعِيمٍ يقول : وله مع ذلك بستان نعيم يتنعم فيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وجنة نعيم ، قال : قد عُرِضت عليه .
والروح : الرحمة والسعة والفرح ، ومنه { روح الله } [ يوسف : 87 ] والريحان وهو دليل النعيم ، وقال مجاهد ، الريحان : الرزق . وقال أبو العالية وقتادة والحسن ، الريحان : هذا الشجر المعروف في الدنيا يلقى المقربين ريحاناً من الجنة .
وقرأ الحسن وابن عباس وجماعة كثيرة «فرُوح » بضم الراء . وقال الحسن ومعناه : روحه يخرج في ريحانه وقال الضحاك ، الريحان : الاستراحة .
قال القاضي أبو محمد : الريحان ، ما تنبسط إليه النفوس . وقال الخليل : هو طرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور ، وقد قال عليه السلام في الحسن والحسين : «هما ريحانتاي من الدنيا »{[10943]} ، وقال النمر بن تولب : [ المتقارب ]
سلام الإله وريحانه . . . ورحمته وسماء درر{[10944]}
وقالت عائشة رضي الله عنها : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : «فرُوح » بضم الراء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فروح} يعني فراحة {وريحان} يعني الرزق في الجنة بلسان خير {وجنت نعيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرّبِينَ فَرَوْحَ وَرَيْحانٌ" يقول تعالى ذكره: فأما إن كان الميت من المقرّبين الذين قرّبهم الله من جواره في جنانه "فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ" يقول: فله روح وريحان. واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار "فَرَوْحٌ" بفتح الراء، بمعنى: فله برد "وَرَيْحانٌ" يقول: ورزق واسع... بمعنى: فله الرحمة والمغفرة، والرزق الطيب الهنّي...
وأصله من قولهم: وجدت رَوْحا: إذا وجد نسيما يَسَترْوح إليه من كَرَبِ الحرّ. وأما الرّيحان، فإنه عندي الريحان الذي يُتَلقى به عند الموت، وقوله: "وَجَنّةُ نَعِيمٍ" يقول: وله مع ذلك بستان نعيم يتنعم فيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} في الرَّوح ثمانية تأويلات:
الخامس: أنه الرَوح من الغم والراحة من العمل، لأنه ليس في الجنة غم ولا عمل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والروح: الرحمة والسعة والفرح، ومنه {روح الله} [يوسف: 87] والريحان وهو دليل النعيم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي: فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما تقدم في حديث البراء: أن ملائكة الرحمة تقول: "أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان"... من الرحمة والراحة والاستراحة، والفرح والسرور والرزق الحسن، {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فروح} أي فله راحة ورحمة... {وريحان}...ولما ذكر هذه اللذاذة، ذكر ما يجمعها وغيرها فقال: {وجنات} أي بستان جامع للفواكه والرياحين وما يكون عنها وتكون عنه...
ولما كان جنان الدنيا قد يكون فيها نكد، أضاف هذه الجنة إلى المراد بهذه الجنان إعلاماً بأنها لا تنفك عنه فقال: {نعيم} أي ليس فيها غيره بل هي مقصورة عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالروح هنا ترى علائم هذا النعيم الذي ينتظرها: روح وريحان وجنة نعيم. والألفاظ ذاتها تقطر رقة ونداوة. وتلقي ظلال الراحة الحلوة، والنعيم اللين والأنس الكريم...
وجزاؤهم: (فروح)، قالوا: يعني رحمة من الله وسرور بنعمة الله، والرحمة تتناسب سعتها وعلوها بقدر الراحم، فإذا كانت الرحمة من الله فهي رحمة لا حدود لها.