85- ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً قال : يا قوم ، اعبدوا الله - وحده - فليس لكم ولى - أي إله - غيره قد جاءتكم الحُجج المبينة للحق من ربكم مثبتة رسالتي إليكم ، وجاءتكم رسالة ربكم بالإصلاح بينكم ، والمعاملة العادلة ، فأوفوا الكيل والميزان في مبادلاتكم ، ولا تنقصوا حقوق الناس ، ولا تفسدوا في الأرض الصالحة بإفساد الزرع ونحوه ، وبقطع الأرحام والمودة ، فإن ذلك خير لكم إن كنتم تؤمنون بالله تعالى وبالحق المبين .
ثم قصت علينا سورة الأعراف بعد ذلك قصى شعيب مع قومه ، فقالت : { وإلى مَدْيَنَ . . . } .
قوله : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } أى : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا . ومدين اسم للقبيلة التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى معان بين حدود الحجاز والشام ، وهم أصحاب الأيكة - والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية معان ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا .
وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم فهو أخوهم في النسب وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيب قال : " ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته " .
وكان قومه أهل كفر وبخص للمكيال والميزان فدعاهم إلى توحيد الله - تعالى - ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق .
وعن السدى وعكرمة : أن شعيبا أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة ، وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأنه لم يبعث نبى مرتين إلا شعيب - عليه السلام - .
ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة فأهل مدين هم أصحاب الأيكة أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة - أى السحابة - ، وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر .
وبعد أن دعاهم إلى وحدانية الله شأن جميع الرسل في بدء دعوتهم قال لهم : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أى : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتى توجب عليكم الإيمان بى والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما كانت معجزته ؟ قلت : قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة لقوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) ، ولأنه لا بد لمدعى النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه وإلا لم تصح دعواه ، وكان متنبئا لا نبياً ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه .
ثم أخذ في نهيهم عن أبرز المنكرات التي كانت متفشية فيهم فقال - كما حكى القرآن عنه - :
{ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } الكيل والميزان مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن به ، كالعيش بمعنى ما يعاش به . أو المكيل والموزون .
أى : فأتموا الكيل والميزان للناس بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة .
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ } أى : ولا تنقصوهم حقوقهم بتطفيف الكيل ونقص الوزن فيما يجرى بينكم وبينهم من معاملات .
يقال : بخسه حقه يبخصه إذا نقصه إياه . وظلمه فيه " وتبخسوا " تعدى إلى مفعولين أولهما الناس والثانى أشياءهم .
وفائدة التصريح بالنهى عن النقص بعد الأمر بالإيفاء ، تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده .
قال الآلوسى : وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه . وقد جاء عن ابن عباس أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم . قيل ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه . وكثير ممن ينتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس ، وليتهم قنعوا به بل جمعوا " حشفا وسوء كيلة " فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم نهاهم عن الافساد بوجه عام فقال : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أى : لا تفسدوا في الأرض بما ترتكبون فيها من ظلم وبغى ، وكفر وعصيان ، بعد أن أصلح أمرها وأمر أهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون الذين يعدلون في معاملاتهم ويلتزمون الحق في كل تصرفاتهم .
ثم ختمت الآية بتلك الجملة الكريمة التي استجاش بها شعيب مشاعر الإيمان في نفوس قومه حيث قال لهم : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
أى : ذلكم الذي آمركم به وأنهاكم عنه خير لكم في الحال والمآل فبادروا إلى الاستجابة لى إن كنتم مصدقين قولى ، ومنتفعين بالهدايات التي جئت بها إليكم من ربكم .
فاسم الإشارة { ذلكم } يعود إلى ما ذكر من الأمر بالوفاء في الكيل والميزان والنهى عن بخس الناس أشياءهم وعن الافساد في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وأرسلنا إلى ولد مدين . ومدين : هم ولد مدين بن إبراهيم خليل الرحمن ، فيما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق .
فإن كان الأمر كما قال : فمدين قبيلة كتميم . وزعم أيضا ابن إسحاق أن شعيبا الذي ذكر الله أنه أرسله إليهم من ولد مدين هذا ، وأنه شعيب بن ميكيل بن يشجر ، قال : واسمه بالسريانية بثرون .
فتأويل الكلام على ما قاله ابن إسحاق : ولقد أرسلنا إلى ولد مدين أخاهم شعيب بن ميكيل ، يدعوهم إلى طاعة الله والانتهاء إلى أمره وترك السعي في الأرض بالفساد والصدّ عن سبيله ، فقال لهم شعيب : يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له ، ما لكم من إله يستوجب عليكم العبادة غير الإله الذي خلقكم وبيده نفعكم وضرّكم . قَدْ جاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول : قد جاءتكم علامة وحجة من الله بحقيقة ما أقول وصدق ما أدعوكم إليه . فَأَوْفُوا الكَيْلَ والمِيزَانَ يقول : أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به وبالوزن الذي تزنون به . وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ يقول ولا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها . ومن ذلك قولهم : تحسبها حمقاء وهي باخسة ، بمعنى ظالمة ، ومنه قول الله : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ يعني به : رديء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَلا نَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهّمْ يقول : لا تظلموا الناس أشياءهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهمْ : قال : لا تظلموا الناس أشياءهم .
وقوله : وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْض يقول : ولا تعملوا في أرض الله بمعاصيه وما كنتم تعملونه قبل أن يبعث الله إليكم نبيه ، من عبادة غير الله والإشراك به وبخس الناس في الكيل والوزن . بَعْدَ إصْلاحِها يقول : بعد أن قد أصلح الله الأرض بابتعاث النبيّ عليه السلام فيكم ، ينهاكم عما لا يحلّ لكم وما يكرهه الله لكم . ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : هذا الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والوزن وترك الفساد في الأرض ، خير لكم في عاجل دنياكم وآجل آخرتكم عند الله يوم القيامة . إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقول : إن كنتم مصدقيّ فيما أقول لكم وأودّي إليكم عن الله من أمره ونهيه .
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إليهم ، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل بن بسجر بن مدين ، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه . { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي ، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها ، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة ، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصا لنبوته . { فأوفوا الكيل } أي آلة الكيل على الإضمار ، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله : { والميزان } كما قال في سورة " هود " { أوفوا المكيال والميزان } أو الكيل ووزن الميزان ، ويجوز أن يكون الميزان مصدرا كالميعاد . { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } ولا تنقصوهم حقوقهم ، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير . وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه . { ولا تفسدوا في الأرض } بالكفر والحيف . { بعد إصلاحها } بعدما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع ، أو أصلحوا فيها والإضافة إليها كالإضافة في { بل مكر الليل والنهار } . { ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال .
قيل في { مدين } إنه اسم بلد وقطر ، وقيل اسم قبيلة ، وقيل هم من ولد «مدين » بن إبراهيم الخليل ، وروي أن لوط عليه السلام هو جد شعيب لأمه ، وقال مكي كان زوج بنت لوط ، ومن رأى { مدين } اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي ، ومن رآه اسماً للقبيلة أو الأرض فهو أحرى ألا يصرف ، وقوله : { أخاهم } منصوب بقوله { أرسلنا } [ الأعراف : 59 ] في أول القصص ، وهذا يؤيد أن { لوطاً } [ الأعراف : 80 ] به انتصب ، وأن اللفظ مستمر ، وهذه الأخوة في القرابة ، وقد تقدم القول في { غيره } وغيره ، والبينة إشارة إلى معجزته وإن كنا نحن لم ينص لنا عليها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «قد جاءتكم آية من ربكم » مكان { بينة } وقوله : { فأوفوا الكيل } أمر لهم بالاستقامة في الإعطاء وهو بالمعنى في الأخذ والإعطاء ، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمن وفحشت مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه و { تبخسوا } معناه تظلموا . ومنه قولهم : تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة خادعة ، و { أشياءهم } يريد أموالهم وأمتعتهم مما يكال أو يوزن ، وقوله : { ولا تفسدوا } لفظ عام دقيق الفساد وجليله ، وكذلك الإصلاح عام والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد ، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح ، وقوله : { ذلك خير لكم } أي نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان .