القصة الثانية قوله سبحانه { أو كالذي مر على قرية } ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر ، ونظيره من القرآن { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله }[ المؤمنون : 84 ، 85 ] ثم قال { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله }[ المؤمنون : 186 ، 187 ] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل : لمن السماوات ؟ فقيل : لله . ومثله قول الشاعر :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا *** . . .
وعن الأخفش : أن الكاف زائدة والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، أو إلى الذي مر . وعن المبرد : أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر . واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلاً كافراً . شاكاً في البعث لأن قوله { أنى يحيي } استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن ، ولأنه تعالى قال في حقه { فلما تبين له } وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلاً قبل ذلك . وكذا قوله { أعلم أن الله على كل شيء قدير } وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا .
ثم من هؤلاء من قال : إن أرميا هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحق . وقال وهب بن منبه : إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة . وقيل : هو عزير على ما يجيء . حجة هؤلاء أن قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } يدل على أنه كان عالماً بالله ، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة . وأيضاً قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله { قال كما لبثت } وفي قوله { وانظر } { ولنجعلك } وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضاً . روي عن ابن عباس أن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير - ومنهم عزير وكان من علمائهم - فجاء بهم إلى بابل . فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك وقال { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } أي من أين يتوقع عمارتها ؟ لا على سبيل الشك في القدرة ، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً . وكانت الأشجار مثمرة فتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع ، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير { كم لبثت ؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } من التين والعنب { وشرابك } من العصير لم يتغير . فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد . ثم قال { وانظر إلى حمارك } فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله . فسمع صوتاً : أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به ، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب ، ثم العروق ، ثم انبسط اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخر عزير ساجداً فقال { أعلم أن الله على كل شيء قدير } ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل ، وقد كان يختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة وكان فيهم عزير . والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً . وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله .
وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس . وقال ابن زيد : هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت . ومعنى قوله { خاوية على عروشها } ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط . والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب ، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة ، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل . ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله ، وخوى بطن الحامل . " وعلى " بمعنى " عن " أي خاوية عن عروشها ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون { على عروشها } خبراً بعد خبر كأنه قيل : هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة ، وكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فياه من عروش الفواكه { فأماته الله مائة عام } لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية { ثم بعثه } أي أحياه كما كان أوّلاً عاقلاً فهماً مستعداً للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال أحياه لم تحصل هذه الفوائد . { قال كم لبثت } أي كم مدة ؟ فحذف المميز . والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة { قال } بناء على الظن لا بطريق الكذب { لبثت يوماً أو بعض يوم } روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس . فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً . ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم . والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان سبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره { لم يتسنه } لم يتغير . وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه . وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير ، وقولهم " سانيت الرجل مساناة " إذا عامله سنة . وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير ، وقولهم " أجرت الدار مسانهة " . وقيل : أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى { من حمإ مسنون }[ الحجر : 26 ] أي متغير منتن . وإما من السنة أيضاً بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننة بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلاً .
وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تقضض . ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء السكت في الوقف . وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله " لم يتسن " أي الشراب بقي بحاله لم ينصب . فعلى هذا يكون قوله { لم يتسنه } عائداً إلى الشراب وحده ، ويوافقه قراءةٍ ابن مسعود { فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن } وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحاً لأن يعود إلى الطعام وإلى الشراب جميعاً . فإن قيل : إنه تعالى لما قال { بل لبثت مائة عام } كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك ، ولكن قوله { فانظر } يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم . فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل : { وانظر إلى حمارك } فرآه عظاماً نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقياً ، وما يمكن أن يبقى زماناً طويلاً وهو الحمار غير باقٍ فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميماً . وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال ، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله { بل لبثت مائة عام } . { ولنجعلك آية } قال الضحاك : معناه أنه جعله دليلاً على صحة البعث . وقال غيره : كان آية { للناس } لأن الله تعالى بعثه شاباً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق . وقيل : إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية . وقيل : إن حماره لم يمت . والمراد وانظر إلى حمارك سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ، وأما فائدة الواو في قوله { ولنجعلك آية للناس } فقد قال الفراء : فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام . بل المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء . ومثله في القرآن كثير { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون }[ الأنعام : 105 ] { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين }[ الأنعام : 75 ] { وانظر إلى العظام كيف ننشرها } بالراء المهملة أي كيف نحييها . وقرئ { كيف ننشرها } من نشر الله الموتى بمعنى أنشرهم . ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط . وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله { من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة }[ يس : 79 ] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب . والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج . " وكيف " في موضع الحال من العظام والعامل فيه " ننشرها " لا " انظر " لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، وأن اللام فيه بدل من الكناية . وعن قتادة والربيع وابن زيد : أن العظام عظام هذا الرجل نفسه . قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه ، وزيف بأن قوله { لبثت يوماً أو بعض يوم } إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة . وأيضاً قوله { ثم بعثه } يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها ، وقيل : هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وفاعل تبين مضمر تقديره { فلما تبين له } أن الله على كل شيء قدير { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله " ضربني وضربت زيداً " أو التقدير : فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم . وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالاً . ومن قرأ { اعلم } على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك . والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم { واعلم أن الله عزيز حكيم } قال القاضي : القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله { فلما تبين له } فلا يحسن الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك . أما الإخبار عن أنه حصل فجائز . قلت : ليس هذا من باب الأمر بتحصيل الحاصل ، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة ، فإن من قدر على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادراً على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة ، ولهذا أوردت القضية كلية . نعم لو قيل : اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمراً بتحصيل الحاصل ، على أن ذلك أيضاً ممنوع فإن الأمر حينئذٍ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد ، وذلك كقولك للمتحرك " تحرك " أي واظب على الحركة ولا تفتر . وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراءات السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى ؟