محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا} (97)

( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا97 ) .

( ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) روى البخاري{[2160]} عن ابن عباس/ : " أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله . أو يضرب فيقتل . فأنزل الله : ( إن الذين توفاهم ) . . . الآية " . وأخرجه ابن مردويه ، وسمى منهم ( في روايته ) " قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة ، وعمرو بن أمية بن سفيان ، وعلي بن أمية بن خلف . وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر . فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا : غر هؤلاء دينهم . فقتلوا ببدر " . وأخرجه ابن أبي حاتم ، وزاد : " منهم الحرث بن زمعة بن الأسود ، والعاص بن منبه بن الحجاج " .

وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : " كان قوم بمكة قد أسلموا . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا ، وخافوا . فأنزل الله : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) ، إلى قوله : ( إلا المستضعفين ) " . وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال : " كان قوم من أهل مكة قد أسلموا . وكانوا يخفون الإسلام . فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر . فأصيب بعضهم . فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين ، فأكرهوا فاستغفروا لهم . فنزلت : ( ان الذين توفاهم الملائكة ) . . . الآية . فكتبوا بها إلى من بقي منهم ، وأنه لا عذر لهم ، فخرجوا . فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا . فنزلت : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) {[2161]} . فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا . فنزلت : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ) . . . الآية{[2162]} . فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا . فلحقوهم . فنجا من نجا وقتل من قتل " .

/ وأخرج ابن جرير{[2163]} من طرق كثيرة نحوه . كذا في ( لباب النقول ) . قال المهايمي : ولما أوهم ما فهم مما تقدم ، من تساوي القاعدين أولى الضرر والمجاهدين ، أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم ، وان عجز عن إظهار دينه ، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر ، الموعود لهم الحسنى –أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم ، مع إمكان الخروج عنه ، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة ، بل لعذاب جهنم ، فقال : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) أي : في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار . و ( توفاهم ) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ : ( توفتهم ) ومضارعا بمعنى تتوفاهم . بمعنى إن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها . أي : يمكنهم من استيفائها فيستوفونها . كذا في ( الكشاف ) . و ( الظلم ) قد يراد به الكفر كقوله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) {[2164]} . وقد يراد به المعصية كقوله : ( فمنهم ظالم لنفسه ) {[2165]} . ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا . روى أبو داود{[2166]} عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " . ( قالوا ) أي : الملائكة للمتوفين ، تقريرا لهم بتقصيرهم وتوبيخا لهم ( فيم كنتم ) أي : في أي شيء كنتم من أمور دينكم ( قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) جوابا عن قولهم : ( فيم كنتم ) وكان حق الجواب : كنا في كذا أو لم نكن في شيء ؟ قلت معنى ( فيم كنتم ) التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا . فقالوا : كنا ( مستضعفين ) اعتذارا مما وبخوا به ، واعتلالا بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء . فبكتتهم الملائكة بقولهم : ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) أرادوا : انكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة . وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب ، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر ، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة –حقت عليه المهاجرة . انتهى . ( فأولئك ) أي : النفر المذكور ( مأواهم ) أي : مصيرهم ( جهنم ) لأنهم الذين ضعفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم ( وساءت مصيرا ) أي : جهنم . بدل المصير إلى دار الهجرة .


[2160]:أخرجه البخاري في: 65 –كتاب التفسير، 4 –سورة النساء، 19 –باب (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)... الآية، حديث 1993.
[2161]:|29/ العنكبوت/ 10| (... ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين10).
[2162]:|16/ النحل/ 110| (.... ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم110).
[2163]:الأثر رقم 10261 -10269.
[2164]:|31/ لقمان/ 13| ونصها: (واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم13).
[2165]:|35/ فاطر/ 32|.
[2166]:أخرجه أبو داود في: 15 –كتاب الجهاد، 170 –باب في الاقامة بأرض الشرك، حديث 2787.