( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما92 ) .
( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) أي ما جاز ولا صح ولا لاق لمؤمن قتل أخيه المؤمن . فإن الإيمان زاجر عن ذلك . إلا على وجه الخطأ . فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب خطأ ؟ قلت : بأنه مفعول له . أي : ما ينبغي له أن يقتله لعله إلا للخطأ وحده . ويجوز أن يكون حالا . بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال الا في حال الخطأ . وأن يكون صفة للمصدر : إلا قتلا خطأ .
والمعنى : أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء ، البتة . إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد . بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما . أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم . انتهى .
( ومن قتل مؤمنا خطأ ) أي : بما ذكرنا . فهو ، وان عفي عنه ، لكنه لا يخلو عن تقصير في حق الله ، ولا يهدر دم المؤمن بالكلية ( فتحرير رقبة مؤمنة ) أي : فالواجب عليه ، لحق الله ، اعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان ، ولو صغيرة . ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءا منه من النار .
وقد روى الإمام أحمد{[2071]} عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار ، " أنه جاء بأمة سوداء . فقال : يا رسول الله ! ان علي عتق رقبة مؤمنة . فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا اله إلا الله ؟ قالت : نعم . قال : أتشهدين أني رسول الله ؟ قالت : نعم . قال : أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت : نعم . قال : أعتقها " . وهذا إسناد صحيح ، وجهالة الصحابي لا تضره .
وفي ( موطأ مالك ) {[2072]} و ( مسند الشافعي وأحمد ) و ( صحيح مسلم ) و ( سنن أبي داود والنسائي ) عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : أعتقها فإنها مؤمنة " . أفاده ابن كثير .
الأولى : قال الزمخشري : التحرير : الإعتاق . والحر والعتيق : الكريم . لأن الكرم في الأحرار ، كما أن اللؤم في العبيد . ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير لكرامها . وحر الوجه أكرم موضع منه . وقولهم للئيم : عبد ، وفلان عبد الفعل ، أي : لئيم الفعل . والرقبة عبارة عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأسا من الرقيق .
/ الثانية : قيل في حكمة الاعتاق : انه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء ، لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار . لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها . من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات . إذ الرق أثر من آثار الكفر . والكفر موت حكما : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) {[2073]} . ولهذا منع من تصرف الأحرار . وهذا مشكل . إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضا . لكن يحتمل أن يقال : انما وجب عليه ذلك ، لأن الله تعالى أبقى للقاتل نفسا مؤمنة حيث لم يوجب القصاص . فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة . أفاده النسفي . ( ودية مسلمة إلى أهله ) أي : والواجب عليه أيضا ، لحق ورثة المقتول ، عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم ، دية مؤداة إلى ورثته . يقتسمونها اقتسام الميراث . وقد بينت السنة مقدارها . وذلك فيما رواه النسائي{[2074]} وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا . وفيه : إن في النفس الدية ، مائة من الإبل . وفيه : وعلى أهل الذهب ألف دينار " . وروى أبو داود{[2075]} عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " أنه فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل . وعلى أهل البقر مائتي بقرة . وعلى أهل الشاء ألفي شاة . وعلى أهل الحلل مائتي حلة " .
وفي ( الموطأ ) {[2076]} " أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار . وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم " . وهذه الدية انما تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله .
/ قال الشافعي رحمه الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة . وفي ( الصحيحين ) {[2077]} عن أبي هريرة قال : ( اقتتلت امرأتان من هذيل . فرمت احداهما الأخرى بحجر . فقتلتها ، وما في بطنها . فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقضى أن دية جنينها غرة . عبد أو أمة . وقضى بدية المرأة على عاتقها " . ورواه أبو داود{[2078]} عن جابر بلفظ : " أن امرأتين من هذيل قتلت احداهما الأخرى . ولكل واحدة منهما زوج وولد . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة . وبرأ زوجها وولدها ، قال فقال عاقلة القاتلة : ميراثها لنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا . ميراثها لزوجها وولدها " . و ( العاقلة ) القرابات من قبل الأب وهم عصبته . وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول . وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر . لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول . ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ، ولو لم تكن إبلا . وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) {[2079]} . فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية . لما في ذلك من المصلحة . لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله . لأن تتابع الخطأ لا يؤمن . ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول . كذا في ( نيل الأوطار ) .
قال المهايمي : تجب الدية على كل عاقلة القاتل . وهم عصبته غير الأصول والفروع . لأنه لما عفى عن القاتل فلا وجه للأخذ منه . وأصوله وفروعه أجزاؤه . فالأخذ منهم أخذ منه . / ولا وجه لاهدار دم المؤمن . فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية . لأن الغرم بالغنم . فإن لم يكن له عاقلة ، أو كانوا فقراء ، فعلى بيت المال . انتهى .
وقد خالف أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج . فأوجبوا الدية على القاتل لا على عاقلته . واحتجوا بوجوه خمسة عقلية . ساقها الفخر الرازي . هنا . وكلها مما لا يساوي فلسا . إذ هي من معارضة النص النبوي بالرأي المحض .
اللهم : إنا نبرأ إليك من ذلك . وقد غفلوا عن حكمة المشروعية على العاقلة التي بيناها :
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
يشمل قوله تعالى : ( فدية مسلمة ) تسليمها حالة ومؤجلة . إلا أن الاجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة . ولكن اختلفوا في مقدار الأجل . فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين . وقال ربيعة : إلى خمس . وحكى في ( البحر ) عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق : أنها تكون حالة . إذ لم يرو عنه صلى الله عليه وسلم تأجيلها . قال في ( البحر ) قلنا : روي عن علي رضي الله عنه " أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين " . وقاله عمر وابن عباس . ولم ينكر . انتهى .
قال الشافعي في ( المختصر ) : لا أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين .
قال الرافعي : تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك . فمنهم من قال : ورد . ونسبه إلى رواية علي عليه السلام . ومنهم من قال : ورد أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة . وأما التأجيل فلم يرد به الخبر . واخذ ذلك من إجماع الصحابة .
وقال ابن المنذر : ما ذكره الشافعي لا نعرفه أصلا من كتاب ولا سنة . وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال : لا نعرف فيه شيئا . فقيل : إن أبا عبد الله ، يعني الشافعي ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : لعله سمعه من ذلك المدني . فإنه كان حسن الظن به . يعني ابراهيم بن أبي يحيى . وتعقبه ابن الرفعة : بأن من عرف حجة على من لم يعرف . وروى البيهقي من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : " من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين " . وقد وافق الشافعي ، على نقل الإجماع ، الترمذي في ( جامعه ) وابن المنذر . فحكى كل واحد منهما الإجماع . كذا في ( نيل الأوطار ) . وقوله تعالى : ( إلا أن يصدقوا ) أي : إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه . وسمى العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله . قال السيوطي في ( الاكليل ) : فيها ( أي : هذه الآية ) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه ، ونفيه عن الخطأ ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية . لا قصاص . وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول . إلا أن يصدقوا بها ، أي : يبرؤوا منها . ففيه جواز الإبراء من أهل الدية . مع أنها مجهولة . وفي قوله ( مسلمة ) دون ( يسلمها ) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل . ذكره سعيد بن جبير . أخرجه ابن أبي حاتم واستدل بقوله : ( إلى أهله ) ، على أن الزوجة ترث منها . لأنها من جملة الأهل خلافا للظاهرية . واحتج بها من أجاز ارث القاتل منها . لأنه من أهله . واحتج الظاهرية بقوله : ( إلا أن يصدقوا ) . على أن المقتول ليس له العفو عن الدية . لأن الله جعل لأهله خاصة . وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ . خلافا لمن قال : لا شيء عليه ولا على عاقلته . واستدل بعمومها أيضا من قال : ان في قتل العبد الدية والكفارة . وان على الصبي والمجنون ، إذا قتلا ، الكفارة . وان المشارك في القتل عليه كفارة كاملة . انتهى . ( فان كان ) أي : المقتول خطأ ( من قوم عدو لكم ) أي : محاربين ( وهو مؤمن ) فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه ، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم ، أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهم من المهمات ( فتحرير رقبة مؤمنة ) أي : فعلى قاتله الكفارة ، لحق الله دون الدية . فإنه ا ساقطة . إذ لا ارث بينه وبين أهله . لأنهم محاربون .
وقال الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام : " لا تؤدى الدية إليهم لأنهم يتقوون بها " . ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذا من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة ، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية وآخرها ، وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال : " كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون . فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة . فيعتق الذي يصيبه رقبة " ( وان كان ) أي : المقتول خطأ ( من قوم ) أي : كفرة ( بينكم وبينهم ميثاق ) أي : عهد من هدنة أو أمان . أي : كان على دينهم ومذهبهم ( فدية ) أي : فعلى قاتله دية ( مسلمة إلى أهله ) إذ هم كالمسلمين في الحقوق ( وتحرير رقبة مؤمنة ) لحق الله تعالى . وتقديم الدية ههنا مع تأخيرها فيما سلف ، للاشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق .
قال السيوطي : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس : " في قوله تعالى : ( وان كان من قوم بينكم " . الخ . قال : هو الرجل يكون معاهدا . ويكون قومه أهل عهد . فتسلم إليهم الدية ويعتق الذي أصابه رقبة " .
قال السيوطي : ففيه أن المقتول إذا كان من أهل الذمة والعهد ففيه دية مسلمة إلى أهله مع الكفارة . وفيه رد على من قال : لا كفارة في قتل الذمي . والذين قالوا ذلك قالوا : ان الآية في المؤمن الذي أهله أهل عهد . وقالوا : انهم أحق بديته لأجل عهدهم . ويرده تفسير ابن عباس المذكور ، وأنه تعالى لم يقل فيه : ( وهو مؤمن ) ، كما قال في الذي قبله . انتهى .
استدل بالآية من قال : ان دية المعاهد حربيا أو كتابيا ، كالمسلم . لأنه تعالى ذكر في كل منهما الكفارة والدية . فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء . إذ إطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة . وهي دية المسلم . وقد أخرج الترمذي{[2080]} عن ابن عباس وقال : غريب ، " أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، وكان لهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو ، بدية المسلمين " . وأخرج البيهقي عن الزهري " أنها كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثل دية المسلم . وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان . فلما كان معاوية ، أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بين المال . قال : ثم قضى عمر بن عبد العزيز بالنصف وألقى ما كان جعل معاوية " . وأخرج أيضا عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى ذميا دية مسلم " . وفي أثري البيهقي المذكورين مقال . إذ علل الأول بالإرسال . والثاني بأن في إسناده أبا كرز . وهو متروك . وروى أحمد{[2081]} والنسائي والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " عقل الكافر نصف دية المسلم " . وأخرج أبو داود{[2082]} عنه بلفظ : " دية المعاهد نصف دية الحر " . وفي لفظ : " قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين . وهم اليهود والنصارى " . رواه احمد والنسائي وابن ماجة .
وعندي : لا تنافي بين هذه الروايات المذكورة . لأن الظاهر أن الفرض في دية الكافر إنما هو النصف . ولا حرج في الزيادة عليه ، إلى أن يبلغ دية المسلم تبرعا وتفضلا . وبه يحصل الجمع بين الروايات . والاستدلال بالآية على تماثل ديتي المسلم والكافر المتقدم –غير ظاهر . لما في الدية من الإجمال المرجوع . في بيانه إلى السنة ، وقد بينته وصح فيها انه النصف فرضا . والله أعلم ( فمن لم يجد ) أي : رقبة ليحررها . بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها ( فصيام شهرين متتابعين ) أي : فعليه صيام شهرين متواصلين لا إفطار بينهما . بحيث لو صام تسعة وخمسين ، وتعمد بإفطار يوم ، استأنف الجميع . لأن الخطأ إنما نشأ من كدورة النفس . وهذا القدر يزيلها ويفيد التزكية . قاله المهايمي : ( توبة من الله ) أي : قبولا من الله ورحمة منه . ن ( تاب عليه ) : إذا قبل توبته . ( فتوبة ) منصوب على انه مفعول له . أي : شرع لكم ذلك توبة منه . أو مصدر مؤكد لمحذوف . أي : تاب عليكم توبة منه ( وكان الله عليما ) بجميع الأشياء التي منها مقدار كدورة هذا الخطأ العظيم ( حكيما ) في دواء إزالتها .