( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا101 )
( وإذا ضربتم في الأرض ) أي : سافرتم ( فليس عليكم جناح ) أي : إثم / ( أن تقصروا ) أي : تنقصوا شيئا ( من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم ) أي : يقاتلكم الذين كفروا في الصلاة ( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) ظاهر العداوة . فلا يراعون حرمة الصلاة لعداوتهم .
تنبيه : في مسائل تتعلق بالآية :
الأولى : ذهب الجمهور إلى أن الآية عنى بها تشريع صلاة السفر . وان معنى قوله تعالى : ( أن تقصروا من الصلاة ) هو قصر الكمية ، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية . قالوا : وحكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا . روى الترمذي{[2183]} والنسائي وابن أبي شيبة عن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لا يخاف إلا الله رب العالمين . فصلى ركعتين " . وروى البخاري{[2184]} وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان ، بمنى ، ركعتين " . وروى البخاري{[2185]} والبقية عن أنس قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة . فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة . قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عشرا " .
وحينئذ فقوله تعالى : ( إن خفتم ) خرج مخرج الغالب ، حال نزول الآية . إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة . بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب للاسلام وأهله . والمنطوق ، إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له . كقوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) {[2186]} . وكقوله تعالى : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ) . . . الآية{[2187]} .
قالوا : ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد{[2188]} ومسلم وأهل ( السنن ) عن يعلى بن أمية قال : " سألت عمر بن الخطاب . قلت له : قوله تعالى : ( ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) . . . وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه . فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم . فاقبلوا صدقته " .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي حنظلة الحذاء قال : " سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان . فقلت : أين قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) . –ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وروى ابن مردويه عن أبي الوداك قال : " سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة نزلت من السماء . فإن شئتم فردوها " .
قالوا : فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات . وان ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية . قالوا : ومما يدل على أن لفظ ( القصر ) كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات . ولهذا المعنى ، " لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين ، قال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟{[2189]} " .
هذا ، وذهب كثير من السلف ، منهم مجاهد والضحاك والسدي ، إلى أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف . وأن المعني بالقصر الكيفية لا الكمية . لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان . فهي تمام غير القصر . كما قاله عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم . قالوا : ولهذا قال تعالى : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وقال تعالى بعدها : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . . . ) الآية . فبين المقصود من القصر ههنا . وذكر صفته وكيفيته . ولهذا لما عقد البخاري ( كتاب صلاة الخوف ) صدره بقوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) . . . إلى قوله : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) . وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ، قال : ذاك عند القتال . يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه . وقال أسباط عن السدي ، في هذه الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير . لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة ، فالتقصير ركعة . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ، يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان . والمشركون بضجنان فتوافقوا . فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات . بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا . فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم " . روى ذلك ابن أبي حاتم . ورواه ابن جرير{[2190]} عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر . واختار ذلك أيضا . فإنه قال ، بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب . ثم روى عن أمية : " أنه قال لعبد الله بن عمر : انا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبد الله اما وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به " . فقد سمى صلاة الخوف مقصورة . وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر . وأقره ابن عمر على ذلك . واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع . لا بنص القرآن . وأصرح من هذا ما رواه أيضا عن سماك الحنفي قال : " سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان تمام غير قصر . إنما القصر في صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة . ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء . ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء . فيصلي بهم ركعة . فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة " .
هذا ما نقله ابن كثير . وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمية ، أن الآية واردة في صلاة الخوف ، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة . بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتم بركعة . ويصلي منفردا في ركعة . انتهى .
/ قال العلامة أبو السعود : إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته . وفي حق ما يتعلق به من الصلوات . وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر . فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الأمن ، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف ، وبالضرب في المدة المعينة –بيان لاجمال الكتاب .
المسألة الثانية : إذا حمل القصر على قصر العدد ، وأن الرباعية تكون ركعتين ، فما حكم هذا القصر ؟ قلنا : في هذا مذاهب أربعة :
الأول : أن القصر رخصة والإتمام أفضل .
الرابع : أنه يخير في الكفارات . وأنهما ، أعني القصر والإتمام ، واجبان . وهاك بيان متعلق هذه المذاهب . تعلق أهل القول الأول بقوله تعالى : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) . وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز ، لا فيما هو فرض . نحو : ( فلا جناح عليهما أن يتراجعا ) {[2191]} . ( فلا جناح عليكم إن طلقتم النساء ) {[2192]} . ( فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) {[2193]} . ان قيل : قد يستعمل ذلك في الواجب ثل : ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) {[2194]} . أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز . ومن جهة السنة ، ما روي عن عائشة قالت : " اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة . حتى إذا قدمت مكة قلت : يا رسول الله ! بأبي وأمي أنت ! قصرت وأتممت . وصمت وأفطرت . فقال : أحسنت ، يا عائشة ! وما عاب علي . وكان عثمان يقصر ويتم " .
ومن جهة المعنى ، أن المعقول والمفهوم من لفظ ( القصر ) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر . كما رخص له في الإفطار . وفي الحديث : " تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا : حملنا لفظ الجناح على الفرض ، وان كان مجازا ، لما روي عن ابن عباس{[2195]} قال : " فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين " . وعن عمر{[2196]} : " صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان . تمام غير قصر . على لسان نبيكم " . وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره ركعتين . وأقام بمكة ثمانية عشر يوما يقصر ويقول : " أتموا ، يا أهل مكة ! فانا قوم سفر " . وعن الشعبي : " من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم " . وروي " أن عثمان أتم الصلاة بمنى . فأنكر عليه عبد الله بن مسعود . وقال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين . وخلف أبي بكر ركعتين . منفصلتين . فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار . منها أنه قد تأهل " . وقيل : أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة . وهو مذهب سعد بن أبي وقاص . فيكون قولنا : قصرت الصلاة ، مجازا ، لأنها تامة إذا نقص من الأربع . ويقولون : هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل . ومتعلق أهل القول الثالث والرابع وبالجمع بين الروايات ، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين . فكان واجبا مخيرا . ومن قال : انه سنة ، فلأن المشهور عنه صلى الله عليه وسلم القصر في الأسفار ، كذا في تفسير بعض الزيدية .
أقول : حديث عائشة المذكور . رواه النسائي والدارقطني والبيهقي . واختلف قول الدارقطني فيه ، فقال في ( السنن ) : اسناده حسن . وقال في ( العلل ) : المرسل أشبه . وقال ابن حزم : هذا حديث لا خير فيه . وطعن فيه . وقال ابن النحوي ( في البدر المنير ) : في متن هذا الحديث نكارة . وهو كون عائشة خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان . والمشهور إن عمره كلهن في ذي القعدة . وأطال في ذلك .
وقال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الرباعية . فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة . ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة . وأما حديث عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم " ، فلا يصح . وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وقد روي ( كان يقصر وتتم ) الأول بالياء آخر الحروف . والثاني بالتاء المثناة من فوق . وكذلك " يفطر وتصوم " أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين .
قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل . ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه . فتصلي خلاف صلاتهم . كيف ؟ والصحيح عنها{[2197]} ، " ان الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر " . فكيف يظن بها ، مع ذلك ، أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه ؟
/ ثم قال ابن القيم : قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس وغيره : " إنها تأولت كما تأول عثمان " . وان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما . فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي . فغلط بعض الرواة فقال : كان يقصر ويتم . أي : هو . والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه . فقيل : ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر . فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر . وهذا التأويل غير صحيح . فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا . وكان يقصر الصلاة . والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره . فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه بالشفاء . وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة . وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد . وان الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف . وغايته انه نوع تخصيص للمفهوم ، أو رفع له . وقد يقال : إن الآية اقتضت قصرا يتناول الأركان بالتخفيف . وقصر العدد بنقصان ركعتين . وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض والخوف . فإذا وجد الأمران ، أبيح القصر . فيصلون صلاة تامة كاملة . وان وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده . فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد . وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية . فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان ، وسميت صلاة امن . وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق . وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة . باعتبار نقصان العدد . وقد تسمى تامة ، باعتبار إتمام أركانها ، وأنها لم تدخل في قصر الآية . والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين . والثاني يدل عليه كلام الصحابة . كعائشة وابن عباس وغيرهما . قالت عائشة : " فرضت الصلاة ركعتين . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسام إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر " . فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع . وإنما هي مفروضة كذلك . وأن فرض المسافر ركعتان . وقال ابن عباس : " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا . وفي السفر ركعتين . وفي الخوف ركعة " . متفق على حديث عائشة . وانفرد مسلم{[2198]} بحديث ابن عباس .
وقال عمر بن الخطاب{[2199]} : " صلاة السفر ركعتان . والجمعة ركعتان . والعيد ركعتان . تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم . وقد خاب من افترى " . وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه . وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم : " ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقة تصدق الله بها عليكم . فاقبلوا صدقته " . ولا تناقض بين حديثيه . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ، ودينه اليسر السمح ، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد ، كما فهمه كثير من الناس ، فقال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر . وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح ، منفي عنه الجناح . فإن شاء المصلي فعله وان شاء أتم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في سفره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف . كما سنذكره هناك ، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى . وقال أنس{[2200]} : " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة . وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة " . متفق عليه .
" ولما بلغ{[2201]} عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين . وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين . فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان " . متفق عليه . ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما . بل الأولى على قول . وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على ركعتين . وفي ( صحيح البخاري ) {[2202]} عن ابن عمر رضي الله عنه قال : " صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان في السفر لا يزيد على ركعتين . وأبا بكر وعمر وعثمان ( يعني في صدر خلافة عثمان ) " . وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته . وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه . وقد خرج لفعله تأويلات :
أحدها : أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة . فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع ، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر . ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم . فكانوا حديثي عهد بالإسلام ، والعهد بالصلاة قريب . ومع هذا فلم يربع بهم النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنه كان إماما للناس . والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته . فكأنه وطنه ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هو أولى بذلك . وكان هو الإمام المطلق ولم يربع .
التأويل الثالث : أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده . ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . بل كانت فضاء . ولهذا قيل له : " يا رسول الله ! ألا تبني لك بمنى بيتا يظلك من الحر ؟ فقال : لا . منى مناخ من سبق " . فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر . ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشرا يقصر الصلاة .
التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثا . وقد قال{[2203]} النبي صلى الله عليه وسلم : " يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثا " . فسماه مقيما . والمقيم غير مسافر . ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ، ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر . وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة . وأقام بمنى بعد نسكه ، أيام الجمار الثالث ، يقصر الصلاة .
التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى ، واتخادها دار الخلافة . فلهذا أتم . ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة . وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى . فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين . وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه . ورخص له ثلاثة أيام فقط . فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك . وإنما رخص له ثلاثا . وذلك لأنهم تركوها لله . ما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع . ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته . وقال لعمر{[2204]} : " لا تشترها ولا تعد في صدقتك " . فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن .
التأويل السادس : أنه كان قد تأهل بمنى . والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة ، أتم . ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم . فروى عكرمة عن ابراهيم الأزدي عن أبي ذياب عن أبيه قال : " صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال : يا أيها الناس ! لما قدمت تأهلت بها واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم " . رواه الإمام أحمد{[2205]} في ( مسنده ) وعبد الله بن الزبير الحميدي في ( مسنده ) أيضا . وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيف عكرمة .
/ قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف . فإن البخاري ذكره في ( تاريخه ) ولم يطعن فيه . وعادته ذكر الجرح والمجروحين . وقد نص أحمد ، وابن عباس قبله ، أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام . وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما . وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان . وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين . فحيث نزلت فكان وطنها . وهو أيضا اعتذار ضعيف . فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين . وأمومة أزواجه فرع على أبوته . . ولم يكن يتم لهذا السبب . وقد روى هشام بن عروة عن أبيه " أنها كانت تصلي في السفر أربعا . فقلت لها : لو صليت ركعتين ؟ فقالت : يا ابن أختي ! لا يشق علي " .
قال الشافعي رحمه الله : لو كان فرض المسافر ركعتين ، لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود . ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم . وقد قالت عائشة : " كل ذلك قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم . أتم وقصر " . ثم روى عن ابراهيم عن محمد عن طلحة عن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت : " كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم . قصر الصلاة في السفر ، وأتم " .
قال البيهقي : وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء . وأصح اسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحازمي عن الدارقطني عن المحاملي : حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب . حدثنا أبو عاصم . حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء ، عن عائشة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم . ويفطر ويصوم " . قال الدارقطني : وهذا إسناد صحيح . ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري : أنا أبو نعيم . حدثنا العلاء بن زهير . حدثني عبد الرحمان بن الأسود عن عائشة : " أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة . حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ! قصرت وأتممت وصمت وأفطرت . قال : أحسنت ، يا عائشة ! " .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة . ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة . وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم وحدها بلا موجب . كيف وهي القائلة : " فرضت الصلاة ركعتين . فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر " . فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله ؟ وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟
قال الزهري لعروة ، ( لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ) : " فما شأنها ؟ كانت تتم الصلاة . فقال : تأولت كما تأول عثمان " . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها ، فما للتأويل حينئذ وجه . ولا يصح أن يضاف اتمامها إلى التأويل على هذا التقدير . وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر . أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفته وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت . كما أتم عثمان . وكلاهما تأول تأويلا . والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم . مع مخالفة غيره له . والله أعلم .
وقد قال ابن أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : " إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن . ولا نجد صلاة السفر في القرآن . فقال له ابن عمر : يا أخي ! إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا . فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل " . وقد قال أنس{[2206]} : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة . فكان يصلي ركعتين ركعتين . حتى رجعنا إلى المدينة " . وقال ابن عمر : " صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان لا يزيد في السفر على ركعتين . وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم " . وهذه كلها أحاديث صحيحة . انتهى كلام ابن القيم .
قال الإمام الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : وقد استدل ، بحديثي عائشة ، القائلون بأن القصر رخصة . ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه . لما تقدم من أن لفظ " تتم وتصوم " بالفوقانية . لأن فعلها ، على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم ، لا حجة فيه . فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة ؟ وأما الحديث الأول ، فلو كان صحيحا ، لكان حجة . لقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب عنها : " أحسنت " . ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في ( الصحيحين ) وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة . وهذا بعد تسليم انه حسن ، كما قال الدارقطني . فكيف ؟ وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة . فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض . انتهى .
المسألة الثالثة : استدل بعموم الآية من جوز القصر في كل سفر طويلا أو قصيرا . ووجهه أن قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض ) يصدق على كل ضرب . ولكنه خرج الضرب أي : المشي لغير السفر ، لما كان يقع منه صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ، ولا يقصر . ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء . فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا . ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل ، يعد في مسيره إليه مسافرا ، قصر الصلاة . وان كان ذلك المحل دون البريد . ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثالث وما زاد على ذلك ، بحجة نيرة . وغاية ما جاؤوا به حديث{[2207]} : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم " . وفي رواية : " يوما وليلة " . وفي رواية : " بريدا " . وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه . والاحتجاج به مجرد تخمين . وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي قال : " سألت أنسا عن قصر الصلاة ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ، صلى ركعتين " . والشك من شعبة . أخرجه مسلم وغيره . فإن قلت : محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم ، هو كونه صلى الله عليه وسلم سمى ذلك سفرا . قلت : تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا . فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم مسافة الثلاث سفرا . كما سمى مسافة البريد سفرا ، في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية . وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا . فإن قلت : أخرج الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يا أهل مكة ! لا تقصروا في أقل من أربعة برد . من مكة إلى عسفان- " قلت : هو ضعيف لا تقوم به الحجة . فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر . وهو متروك . وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها . والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة . كذا في ( الروضة الندية ) . ( وفي المصباح ) : سفر الرجل سفرا مثل طلب ، خرج للارتحال . وفي ( القاموس ) : قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار : ذوو سفر ، لضد الحضر .