محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم 12 } .

{ يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } أي كونوا على جانب منه . وذلك بأن تظنوا بالناس سوءا ، فإن الظانّ غير محقق . وإبهام ( الكثير ) لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه ، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه ، أو صرف الذهن فيه ، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن . قال تعالى :{[6690]} { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين } . نعم ! من أظهر فسقه ، وهتك ستره ، فقد أباح عرضه للناس . ومنه ما روى : من ألقى جلباب الحياء ، فلا غيبة له . ولذا قال الزمخشري : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة ، وسبب ظاهر ، كان حراما واجب الاجتناب . وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظن الفساد والخيانة به محرم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب ، والمجاهرة بالخبائث .

{ إن بعض الظن } وهو ظن بالمؤمن الشر ، لا الخير { إثم } أي مكسب للعقاب ، لأن فيه ارتكاب ما نهى عنه .

/ قال حجة الإسلام الغزالي في ( الإحياء ) في بيان تحريم الغيبة بالقلب : اعلم أن سوء الظن حرام ، مثل سوء القول . فكما يحرم عليك أن تحدّث غيرك بلسانك بمساوئ الغير ، فليس لك أن تحدّث نفسك ، وتسيء الظن بأخيك . قال : ولست أعني به إلا عقد القلب ، وحكمه على غيره بسوء الظن . فأما الخواطر وحديث النفس ، فهو معفوّ عنه ، بل الشك أيضا معفوّ عنه . ولكن المنهي عنه أن يظن . والظن عبارة عما تركن إليه النفس ، ويميل إليه القلب . فقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } قال : وسبب تحريمه أن أسرار القلوب ، لا يعلمها إلا علام الغيوب ، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل . فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته . وما لم تشاهده بعينك ، ولم تسمعه بأذنك ، ثم وقع في قلبك ، فإنما الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذّبه فإنه أفسق الفساق . إلى أن قال : فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة ، أو بينة عادلة . انتهى .

ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس ، فإن القلب لا يقنع الظن ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس ، ذكر سبحانه النهي عنه ، إثر سوء الظن لذلك ، فقال تعالى : { ولاتجسسوا } قال ابن جرير :{[6691]} أي لا يتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما تعلمونه من سرائره .

يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه ، وبحث عنه ، كتلمس . قال الشهاب : الجس ( الجيم ) كاللمس ، فيه معنى الطلب ، لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه ، فأريد به ما يلزمه . واستعمل التفعل للمبالغة فيه .

قال الغزالي : ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله . فيتوصل إلى الاطلاع ، وهتك الستر ، حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه ، كان أسلم لقلبه ودينه .

/ وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة . منها حديث{[6692]} ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن ، فقال : يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ! لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ، ولو في جوف بيته ) .

وفي ( الصحيح ) {[6693]} عنه صلى الله عليه وسلم : ( لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا ) .

وروى أبو داود :{[6694]} ( أن ابن مسعود رضي الله عنه أتي برجل ، فقيل له : هذا فلان ، تقطر لحيته خمرا ! فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به ) – والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته : الوليد بن عقبة بن أبي معيط .

وروى أبو داود :{[6695]} عن معاوية قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : كلمة سمعها معاوية من رسول الله ، نفعه الله بها ) .

وروى الإمام أحمد{[6696]} عن دجين ، كاتب عقبة ، قال : ( قلت لعقبة : إنا لنا جيرانا يشربون/ الخمر ، وأنا داع لهم الشُّرَط فيأخذونهم ! قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم ! قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشُّرَط فتأخذهم ! فقال له عقبة : ويحك ! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موؤودة من قبرها ! ) .

وروى أبو داود{[6697]} عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ) .

قال الأوزاعيّ : ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون .

{ ولا يغتب بعضكم بعضا } أي لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ، ما يكره المقول فيه ذلك ، أن يقال له في وجهه . يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ، إذا ذكره بسوء في غيبته . { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } ؟ أي فلو عرض عليكم ، نفرت عنه نفوسكم ، وكرهتموه . فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة . وفيه استعارة تمثيلية ، مثل اغتياب الإنسان لآخر بأكل لحم الأخ ميتا .

لطائف :

الأولى – قال الزمخشريّ : { أيحب أحدكم } إلخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى : منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ( وهو يفيد المبالغة من حيث أنه لا يقع إلا في كلام مسلم عند كل سامع ، حقيقة أو ادعاء ) ومنها – جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة . ومنها – إسناد الفعل إلى ( أحدكم ) والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك . ومنها – أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، حتى جعل الإنسان أخا .

ومنها – أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ ، حتى جعل ميتا . انتهى .

/ وقال ابن الأثير في ( المثل السائر ) في بحث الكناية : فمن ذلك قوله تعالى : { أيحب أحدكم } إلخ فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا ، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة . فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له ، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله . فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله ، فشديد المناسبة جدا ، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس ، وتمزيق أعراضهم . وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه ، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة . وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة ، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها ، آمران بتركها ، والبعد عنها . ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته . ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر ، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه . فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة . وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة . فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة ، والشهوة لها ، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبها ، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها ، وجدتها مناسبة لما قصدت له . انتهى .

الثانية – الفاء في قوله تعالى : { فكرهتموه } فصيحة في جواب شرط مقدر . والمعنى : إن صح ذلك ، أو عرض عليكم هذا ، فقد كرهتموه ، فما ذكر جواب للشرط ، وهو ماض فيقدر معه ( قد ) ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي ، كما في قوله تعالى :{[6698]} { فقد كذبوكم بما تقولون } وضمير { فكرهتموه } للأكل ، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه . والمعنى : فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل . وعبر عنه بالماضي للمبالغة ، فإذا أوِّل بما ذكر يكون إنشائيا غير محتاج لتقدير ( قد ) - أفاده الشهاب- .

الثالثة – قال ابن الفرس : يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي ، / لأن ضرب به المثل في تحريم الغيبة ، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان . فدل على أنه في التحريم فوقها . ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه ( بالإحياء ) للغزاليّ ، فإنه جمع فأوعى .

{ واتقوا الله } أي خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي . { إن الله تواب رحيم } أي يقبل توبة التائبين له ، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم .

ثم نبه تعالى ، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض ، على تساويهم في البشرية ، كما قال ابن كثير . بقوله سبحانه : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير 13 }


[6690]:[24 / النور12].
[6691]:انظر الصفحة رقم 135 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(
[6692]:أخرجه الترميذي في: 25 – كتاب البر والصة، 75 – باب ما جاء في تعظيم المؤمن، عن ابن عمر.
[6693]:أخرجه البخاري في: 67 – كتاب النكاح: 45 – باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح او يدع، حديث رقم 2125، عن أبي هريرة.
[6694]:أخرجه أبو داود في: 40 – كتاب الأدب، 37 – باب في النهي عن التجسس، حديث رقم 4888.
[6695]:أخرجه أبو داود في: 40 – كتاب الأدب، 37 – باب في النهي عن التجسس، حديث رقم 4888.
[6696]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 147 من الجزء الرابع(طبعة الحلبي(
[6697]:أخرجه في: 40 كتاب الأدب، 37 – باب في النهي عن التجسس، حديث رقم 4889.
[6698]:[25 /الفرقان / 19].