محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير 13 } .

{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } أي من آدم وحواء . أو من ماء ذكر من الرجال ، وماء أنثى من النساء . أي : من أب وأم ، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر ، سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب .

{ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } قال ابن جرير :{[6699]} وجعلناكم متناسبين ، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا ، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا . ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده ، لا لفضيلة لكم في ذلك ، وقربة تقربكم إلى الله ، بل كما قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } أي أشدكم اتقاء له وخشية بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، لا أعظمكم بيتا ، ولا أكثركم عشيرة .

{ إن الله عليم خبير } أي بظواهركم وبواطنكم ، وبالأتقى والأكرم ، وغير ذلك ، لا تخفى عليه خافية .

/ تنبيهات :

الأول – حكى الثعالبيّ في ( فقه اللغة ) في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبيّ عن أبيه : أن الشّعب ( بفتح الشين ) أكبر من القبيلة ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ، ( بكسر العين ) ثم البطن ، ثم الفخذ . وعن غيره : الشعب ، ثم القبيلة ، ثم الفصيلة ، ثم العشيرة ، ثم الذرية ، ثم العترة ، ثم الأسرة . انتهى .

وقال الشيخ ابن برّي : الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو : الشعب ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، قال أبو أسامة : هذه الطبقات على ترتيب خلق الإنسان ، فالشعب أعظمها ، مشتق من شعب الرأس ، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها ، ثم العمارة وهي الصدر ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة وهي الساق . وزاد بعضهم العشيرة فقال :

اقصد الشَّعب فهو أكثر حيّ *** عددا في الحواء ثم القبيله

ثم يلتوهما العمارة ثم ال*** بطن والفخذ بعدها والفصيله

ثم من بعدها العشيرة لكن *** هي في جنب ما ذكرنا قليله

فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصيّ بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة . وسميت ( الشعوب ) لأن القبائل تشعبت منها . و ) الشعوب ) جمع شعب ، بفتح الشين .

قال أبو عبيد البكريّ في ( شرح نوادر أبي علي القالي ( : كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح ، وفي الجبل بالكسر ، إلا بندار فإنه رواه عن أبي عبيدة بالعكس . نقله الزبيديّ في ( تاج العروس ( .

الثاني – في الآية الاعتناء بالأنساب ، وأنها شرعت للتعارف ، وذم التفاخر بها ، وأن التقيّ غير النسيب ، يقدم على النسيب غير التقيّ ، فيقدم الأورع في الإمامة على النسيب غيرهما .

/ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال : سألت مالكا عن نكاح الموالي العربية فقال : حلال ، ثم تلا هذه الآية ، فلم يشترط في الكفاءة الحرية – نقله في ( الإكليل ( - .

وقال ابن كثير : استدل بالآية ، من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ، ولا يشترط سوى الدين .

الثالث أفاد قوله تعالى : { لتعارفوا } حصر حكمة جعلهم شعوبا وقبائل فيه . أي إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا ، فتصلوا الأرحام ، وتبينوا الأنساب والتوارث ، لا للتفاخر بالآباء والقبائل . قال الشهاب : الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر ، والسكوت في معرض البيان .

وقال القاشانيّ : معنى قوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } لا كرامة بالنسب ، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى . والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب ، لا للتفاخر ، فإنه من الرذائل . والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى . ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة ، كان صاحبها أكرم عند الله وأجلّ قدرا فالمتقي عن المناهي الشرعية التي هي الذنوب في عرف ظاهر الشرع أكرم من الفاجر ، وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن ، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها . انتهى .

الرابع – روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، منها ما رواه البخاري{[6700]} عن أبي هريرة قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم . قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : فأكرم الناس يوسف نبيّ الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم . قال : فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ) .

/ وروى مسلم{[6701]} عنه أيضا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .

وروى الإمام {[6702]} أحمد عن أبي ذر قال : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود ، إلا أن تفضله بتقوى الله ) .

وروى البزار في ( مسنده ) عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ) .

وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر ، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : أيها الناس ! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عَيْبَةَ الجاهلية وتعظّمها بآبائها . فالناس رجلان : رجل برٌّ تقيّ كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر يُتَّقى ، هين على الله تعالى . إن الله عز وجل يقول : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى . . . } الآية ) .

وبقيت أحاديث أخر ساقها ابن كثير ، فانظرها .

وروى الطبريّ{[6703]} عن عطاء قال : ( قال ابن عباس : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله وقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال الناس : أكرمكم أعظمكم بيتا . قال عطاء : نسيت الثالثة ) .

ولما كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب ، والإنكار على مساوئ أخلاقهم ، ثم تأثرها من المناهي عن المنكرات التي تكثر فيهم ، ما كانوا فيها هم المقصود أولا وبالذات ، ثم غيرهم ثانيا وبالعرض ختمها بتعريف أن من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي ، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان ، ثم بيان مَن المؤمن حقا ، ليفقهوا أن الأمر ليس كما يزعمون ، فقال سبحانه وتعالى : { *قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم 14 } .


[6699]:انظر الصفحة رقم 138 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.
[6700]:أخرجه في: 60 – كتاب الأنبياء، 8 – باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}، حديث رقم 1587.
[6701]:أخرجه مسلم في: 45 – كتاب البر والصلة والآداب. حديث رقم 34(طبعتنا) عن أبي هريرة.
[6702]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 158 من الجزء الخامس(طبعة الحلبي(.
[6703]:انظر الصفحة رقم 140 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.