محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَيۡهِمۡ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

{ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم 5 } .

{ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } أي لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه ، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه . وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة ، مع اتصافهم بالصبر ، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم { والله غفور رحيم } أي لمن تاب من معصية الله ، بندائك كذلك ، وراجع أمر الله فيه وفي غيره .

تنبيهات :

الأول – قال ابن كثير : قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميميّ ، فيما أورده غير واحد .

روى الإمام أحمد {[6668]} عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن الأقرع بن حابس ، ( أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! يا محمد ! ( وفي رواية : يا رسول الله ! ) فلم يجبه . فقال : / يا رسول الله ! إن حمدي لزين ، وإن ذمّي لشين ، فقال : ذاك الله عز وجل ) .

وروى ابن إسحاق ، في ذكر سنة تسع ، وهي المسماة سنة الوفود : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ، فكان منهم وفد بني تميم . فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته : أن اخرج إلينا يا محمد ! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم ) . ثم ساق ابن اسحاق نبأهم مطولا ثم قال : وفيهم نزل من القرآن { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } .

الثاني – { الحجرات } بضمتين ، وبفتح الجيم ، وبسكونها . وقرئ بهن جميعا : جمع ( حجرة ) . وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها . فُعْلَة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة .

قال الزمخشري : والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت لكل واحدة منهن حجرة . ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات ، متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه وبعض من وراء تلك . وأنهم قد أتوها حجرة حجرة ، فنادوه من ورائها . وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها . ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمكان حرمته . والفعل – وإن كان مسندا إلى جميعهم – فإنه يجوز أن يتولاّه بعضهم ، وكان الباقون راضين ، فكأنهم تولوه جميعا .

الثالث- قال الزمخشري : ورود الآية على النمط الذي وردت عليه . فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله .

منها – مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به ، بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه .

ومنها- لفظ { الحجرات } وإيقاعها ، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه .

ومنها – المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم .

ومنها – التعريف باللام دون الإضافة .

/ ومنها- أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم ، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهوينا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم ، وسوء أدبهم ، وهلم جرا . . . من أول السورة إلى آخر هذه الآية . فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله ، متقدمة على الأمور كلها ، من غير حصر ولا تقييد . ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر ، كأن الأول بساط للثاني ، ووطاء لذكره . ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك ، فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله . ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم ، وهجنته أتم ، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدرا ، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه ، وجسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا . ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب ، وتقتبس محاسن الآداب ، كما يحكى عن أبي عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى – أنه قال : ما دققت بابا على عالم قط ، حتى يخرج في وقت خروجه . انتهى .

الرابع – قال ابن كثير : قال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم ، كما كان يكره في حياته ، لأنه محترم حيّا ، وفي قبره صلى الله عليه وسلم . وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فحصبهما . ثم ناداهما فقال : من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف . قال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا ) . انتهى .

الخامس – روى البخاري{[6669]} عن عبد الله بن الزبير : ( أنه قدم ركب من بني تميم على / النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمِّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمرّ الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ! فقال عمر : ما أردت خلافك ! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما . فنزل في ذلك { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله . . . } حتى انقضت الآية ) .

وفي رواية : ( فأنزل الله في ذلك { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم . . . } الآية ) .

قال ابن الزبير : ( فما كان يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ) . وقد انفرد بهاتين الروايتين البخاري دون مسلم .

قال الحافظ ابن حجر : وقد استُشكل ذلك ! قال ابن عطية : الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب .

قال ابن حجر : قلت : لا يعارض ذلك هذا الحديث ، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة { لا تقدموا } ولكن لما اتصل بها قوله : { لا ترفعوا } تمسك عمر منها بخفض صوته . وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم ، والذين يختص بهم ، وقوله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } . انتهى .

وتقدم لنا مرارا الجواب عن أمثاله ، بأن قولهم : نزلت الآية في كذا ، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية ، لا أنه سبب لنزولها .

قال الإمام ابن تيمية : قولهم نزلت هذه الآية في كذا ، يراد به تارة سبب النزول ، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية ، وإن لم يكن السبب . كما تقول : عنى بهذه الآية كذا . انتهى . وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول ، فاحفظه ، فإنه من المضنون به على غير أهله . ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري ، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب . وبعضها لآخر ، في قصة واحدة . وبالله التوفيق .


[6668]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 488 من الجزء الثالث(طبعة الحلبي(.
[6669]:أخرجه في: 65 – كتاب التفسير، 49 – سورة الحجرات، 2 – باب {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}، حديث 1942.