ثم يختم السورةَ بصورة المؤمنين الّذين جاهدوا في الله ، واحتملوا الأذى ، وصبروا ولم ييأسوا ، الذين اهتدوا بهدى الله وساروا على الصراط المستقيم ، فقال : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } :
أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم ولن ينسى جهادهم ، وإن الله لمعهم يعينهم ويؤيدهم بالنصر والتوفيق .
{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه ، وجاهدوا أعداءهم ، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته ، { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي : الطرق الموصلة إلينا ، وذلك لأنهم محسنون .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } بالعون والنصر والهداية . دل هذا ، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد ، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية ، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي ، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية ، خارجة عن مدرك اجتهاده ، وتيسر له أمر العلم ، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه ، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد ، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق ، وهو الجهاد بالقول واللسان ، للكفار والمنافقين ، والجهاد على تعليم أمور الدين ، وعلى رد نزاع المخالفين للحق ، ولو كانوا من المسلمين .
ولما كان هذا كله في الذين فتنوا فلم يجاهدوا أنفسهم ، كان المعنى : فالذين فتناهم فوجدوا كاذبين ضلوا فصاروا لا يعقلون ولا يعلمون ، لكونهم لم يكونوا من المجاهدين ، فعطف عليه قوله : { والذين جاهدوا } أي أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دل عليه بالمفاعلة { فينا } أي بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدة والرخاء ، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن ، وشدائد المحن ، مستحضرين لعظمتنا .
ولما كان الكفار ينكرون فلاحهم وكان المفلح والظافر في كل شيء هو المهتدي ، قال معبراً بالسبب عن المسبب : { لنهدينهم } بما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه ، هداية يليق بعظمتنا { سبلنا } أي لا سبل غيرها ، علماً وعملاً ، ونكون معهم بلطفنا ومعونتنا ، لأنهم أحسنوا المجاهدة فهنيئاً لمن قاتل في سبيل الله ولو فواق ناقة لهذه الآية وقوله تعالى
( والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم }[ محمد : 4 ] ، ولهذا كان سفيان بن عيينة يقول : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الغزو .
ولما كان المحسن كلما توفر حظه في مقام الإحسان نقص حظه من الدنيا ، فظن الأغبياء أنه ليس لله به عناية ، عظم التأكيد في قوله ، لافتاً الكلام عن أسلوب الجلال إلى أجلّ عنه بما زاد من الجمال { وإن الله } أي بعظمته وجلاله وكبريائه وجميع كماله لمعهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أراد الإعلام بإحسابهم وتعليق الحكم بالوصف والتعميم فأظهر قائلاً : { لمع المحسنين* } أي كلهم بالنصر والمعونة في دنياهم ، والثواب والمغفرة في عقباهم ، بسبب جهادهم لأنه شكر يقتضي الزيادة ، ومن كان معه سبحانه فاز بكل مطلوب ، وإن رأى الجاهل خلاف ذلك ، فإنه يجعل عزهم من وراء ذل ويستر غناهم بساتر فقر ، حماية لهم مما يجر إليه دائم العز من الكبر ، ويحمل عليه عظيم الغنى من الطغيان ، وما أحسن ما نقل الأستاذ أبو القاسم القشيري في الرسالة عن الحارث المحاسبي أنه قال : من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة ، والآية من الاحتباك : أثبت أولاً الجهاد دليلاً على حذفه ثانياً ، وثانياً أنه مع المحسنين دليلاً على حذف المعية والإحسان أولاً ، فقد عانق أول السورة هذا الآخر ، وكان إليه أعظم ناظر ، فنسأل الله العافية من الفتن ، والمجاهدة إن كان لا بد من المحن ، وإليه المآب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.