لقد أصابهم ما أصابهم من العذاب لأنهم كانت تأتيهم الرسلُ بالمعجزات الظاهرة فأنكروا ذلك أشدَّ الإنكار وقالوا { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ؟ } يرشدوننا وهم مثلُنا ! ! فأنكروا بعثهم { وَتَوَلَّواْ واستغنى الله } عنهم ، { والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فهو غنيٌّ عن الخلق أجمعين ، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم التي لا تُعدّ ولا تحصى .
{ ذَلِكَ } النكال والوبال ، الذي أحللناه بهم { بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالآيات الواضحات ، الدالة على الحق والباطل ، فاشمأزوا ، واستكبروا على رسلهم ، { فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي : فليس لهم فضل علينا ، ولأي : شيء خصهم الله دوننا ، كما قال في الآية الأخرى : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فهم حجروا فضل الله ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلاً للخلق ، واستكبروا عن الانقياد لهم ، فابتلوا بعبادة الأحجار والأشجار ونحوها { فَكَفَرُوا } بالله { وَتَوَلَّوْا } عن طاعه الله ، { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } عنهم ، فلا يبالي بهم ، ولا يضره ضلالهم شيئًا ، { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : هو الغني ، الذي له الغنى التام المطلق ، من جميع الوجوه ، الحميد في أقواله وأفعاله وأوصافه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ذلكَ بأنّهُ كانَتْ تأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّناتِ "يقول: جلّ ثناؤه: هذا الذي نال الذين كفروا من قبل هؤلاء المشركين من وبال كفرهم، والذي أعدّ لهم ربهم يوم القيامة من العذاب، من أجل أنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات الذي أرسلهم إليهم ربهم بالواضحات من الأدلة والإعلام على حقيقة ما يدعونهم إليه، فقالوا لهم: أَبَشَرٌ يهدوننا؟ استكبارا منهم أن تكون رسل الله إليهم بشرا مثلهم واستكبارا عن اتباع الحقّ من أجل أن بشرا مثلهم دعاهم إليه وجمع الخبر عن البشر، فقيل: يهدوننا، ولم يقل: يهدينا، لأن البشر، وإن كان في لفظ الواحد، فإنه بمعنى الجميع.
وقوله: "فَكَفَرُوا وَتَوّلُوْا" يقول: فكفروا بالله، وجحدوا رسالة رسله الذين بعثهم الله إليهم استكبارا "وَتَوَلّوا" يقول: وأدبروا عن الحقّ فلم يقبلوه، وأعرضوا عما دعاهم إليه رسلهم "واسْتَغْنَى اللّهُ" يقول: واستغنى الله عنهم، وعن إيمانهم به وبرسله، ولم تكن به إلى ذلك منهم حاجة.
"وَاللّهُ غَنِيّ حِميدٌ" يقول: والله غنيّ عن جميع خلقه، محمود عند جميعهم بجميل أياديه عندهم، وكريم فعاله فيهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ذلك} أي تلك العقوبات التي نزلت بالأمم الماضية إنما كان سببها أن رسلهم {كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا} وكان قولهم: {أبشر يهدوننا} تلقين إبليس حين لقنهم مخالفة الرسول وتكذيبه، وأنكم لو احتجتم إلى طاعته ففيكم من هو أعظم منه درجة وأكبر منزلة. فإذا لم تطيعوه، فكيف تطيعون بشرا مثلكم؟ وهذا كله عناد وخطأ...
{والله غني حميد} قد وصفنا معنى الغني. وأما الحميد فيتحمل وجهين:
أحدهما: يعني المحمود أي المستحق للحمد بذاته؛ إذ يستحق كل أحد الحمد على ما يحسن.
والثاني: يحتمل معنى الحميد معنى الحامد؛ ووجه ذلك أن الله تعالى يحمد محاسن الخلق وآثار أفعالهم، وأن حقيقة تلك الأفعال من جهة التوفيق والتسديد إنما كانت به، وذلك غاية الكرم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{واستغنى الله} أطلق ليتناول كل شيء، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. فإن قلت: قوله: {وَتَوَلَّواْ واستغنى الله} يوهم وجود التولي والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنياً. قلت: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{استغنى الله} عبارة عما ظهر من هلاكهم، وأنهم لن يضروا الله شيئاً، فبان أنه كان غنياً أزلاً، وبسبب ظهور هلاكهم بعد أن لم يكن ظاهراً ساغ استعمال هذا البناء مسنداً إلى اسم الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ذلك} أي الأمر الشنيع العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق...
. {بأنه} أي بسبب أن الشأن العظيم البالغ في الفظاعة {كانت تأتيهم} على عادة مستمرة {رسلهم} أي رسل الله الذين أرسلهم إليهم وخصهم بهم ليكونوا موضع سرورهم بهم {بالبينات} أي الأمور التي توضح غاية الإيضاح أنهم رسل الله من الكتب وغيرها، فشهدوا الأمر من معدنه، فلذلك كان عذابهم أشد...
{فقالوا} أي الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً: {أبشر} أي هذا الجنس... {يهدوننا} فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم {فكفروا} بذلك عقب مجيء الرسل وبسببه من غير نظر وتفكر وأدنى تأمل وتبصر... {وتولوا} أي كلفوا أنفسهم خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الإعراض عن الرسل بعد إنكار رسالتهم لشبهة قامت عندهم، وذلك أنهم قالوا: إن الله عظيم لا يشبه البشر فينبغي أن يكون رسله من غير البشر... {واستغنى الله} أي فعل الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه فعل من يطلب الغنى عنهم وأوجده إيجاداً عظيماً ممن هداه لاتباع الرسل فأعرض عنهم حين أعرضوا عن رسله فضرهم إعراضه عنهم ولم يضره إعراضهم وما ضروا إلا أنفسهم وأطلق الاستغناء ليعم كل شيء... {والله} أي المستجمع لصفات الكمال من غير تقيد بحيثية {غني} عن الخلق جميعاً {حميد} له صفة الغنى المطلق والحمد الأبلغ الذي هو الإحاطة بجميع أوصاف الكمال على الدوام أزلاً وأبداً، لم يتجدد له شيء لم يكن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا: أبشر يهدوننا؟).. وهو الاعتراض ذاته الذي يعترضه المشركون على الرسول [صلى الله عليه وسلم] وهو اعتراض فج ناشئ عن الجهل بطبيعة الرسالة، وكونها منهجا إلهيا للبشر...
فجائز في عرفهم أن يتبعوا رسولا من خلق آخر غير جنسهم بلا غضاضة. أما أن يتبعوا واحدا منهم فهي في نظرهم حطة وقلة قيمة! ومن ثم كفروا وتولوا معرضين عن الرسل وما معهم من البينات...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ذلك بأنّه كانت تأتيهم رسلهم بالبيّنات فقالوا أبشر يهدوننا) وبهذا المنطق عصوا وكفروا (فكفروا وتولّوا) والله في غنى عن طاعتهم (واستغنى الله) فطاعتهم لأنفسهم وعصيانهم عليها و (الله غني حميد). ولو كفرت كلّ الكائنات لما نقص من كبريائه تعالى شيء، كما أنّ طاعتهم لا تزيده شيئاً. نحن الذين نحتاج إلى كلّ هذه التعليمات والمناهج التربوية. عبارة (واستغنى الله) مطلقة تبيّن استغناء البارئ عن الوجود كلّه، وعدم حاجته إلى شيء أبداً، بما في ذلك إيمان الناس وطاعتهم، كي لا يتصوّروا خطأً أنّ الله عندما يؤكّد على الطاعة والإيمان فبسبب حاجة أو نفع يصيبه سبحانه. وقال آخرون في معنى عبارة (استغنى الله) بأنّها إشارة إلى الحكم والآيات والمواعظ التي أعطاها الله تعالى إيّاهم، إذ لا يحتاجون بعدها إلى شيء...
ولما ذكر ما أحله بهم سبحانه وأشار إلى القطع بأنه من عنده باتساقه في خرقه العوائد بالاستئصال والخصوص لمن كذب الرسل والتنجية لمن صدقهم ، علله بقوله : { ذلك } أي الأمر الشنيع العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق . ولما لم يكن مقصودها كمقصود غافر من تصنيف الناس صنفين ، وإنما حصل تصنيفهم هنا بالعرض للدلالة على الساعة اكتفى بضمير الشأن فقال : { بأنه } أي بسبب أن الشأن العظيم البالغ في الفظاعة { كانت تأتيهم } على {[65733]}عادة مستمرة{[65734]} { رسلهم } أي رسل الله الذين أرسلهم{[65735]} إليهم وخصهم بهم ليكونوا موضع سرورهم بهم { بالبينات } أي الأمور التي توضح غاية الإيضاح أنهم رسل الله من الكتب وغيرها ، فشهدوا الأمر من معدنه ، فلذلك كان عذابهم أشد .
ولما كان سبحانه وتعالى قد أودع{[65736]} الإنسان من جملة ما منحه به خاصة لطيفة وهي العزة وحب الكبر والعلو ، فمن وضعها موضعها بالتكبر{[65737]} على من أمر الله بالتكبر عليه وهم{[65738]} شياطين الإنس والجن ممن عصاه سبحانه نجا ، ومن وضعها في غير موضعها بالتكبر على أولياء الله رب العزة هلك ، بين تعالى أن الكفار وضعوها في غير موضعها : { فقالوا } أي الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً : { أبشر } أي هذا الجنس وهو مرفوع على الفاعلية لأن الاستفهام يطلب الفعل ، ولما كان تكذيب الجمع أعظم ، وكان لو أفرد الضمير لم يكن له روعة الجمع قال : { يهدوننا } فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم { فكفروا } بذلك عقب مجيء الرسل وبسببه من غير نظر وتفكر وأدنى تأمل وتبصر حسداً للرسل لكونهم مساوين لهم في البشرية فاستبعدوا أن يخصوا من بينهم بأمر ولا سيما إن كان عظيماً جداً ، فلزمهم ارتكاب أقبح الأمور وهو استبعاد أن يكون النبي بشراً مع الإقرار بأن{[65739]} يكون الإله حجراً { وتولوا } أي كلفوا أنفسهم خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الإعراض عن الرسل بعد إنكار رسالتهم لشبهة قامت عندهم ، وذلك أنهم قالوا : إن الله عظيم لا يشبه البشر فينبغي أن يكون رسله من غير البشر ، ولو تأملوا حق التأمل لعلموا أن هذا هكذا ، وأن الرسل إنما هي ملائكة ، لكن لما كان لا يقوى جميع البشر على رؤية الملائكة كما هو مقتضى العظمة التي توهموها ولم يثبتوها على وجهها ، خص سبحانه من البشر ناساً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوى زائدة طوقهم بها على معالجتهم ، فأتوا إليهم ليكونوا واسطة بين الله وبين خلقه لأن بعض الجنس أميل إلى بعض وأقبل .
ولما كان هذا كله إنما هو لمصالح الخلق لا يعود على الله سبحانه وتعالى وعز شأنه نفع من وجوده ولا يلحقه ضرر من عدمه ولا بالعكس ، نبه على ذلك بقوله { واستغنى الله } أي فعل الملك الأعظم الذي{[65740]} لا أمر{[65741]} لأحد معه فعل من يطلب الغنى عنهم وأوجده إيجاداً عظيماً ممن هداه لاتباع الرسل فأعرض عنهم حين أعرضوا عن رسله فضرهم إعراضه عنهم{[65742]} ولم يضره إعراضهم وما ضروا إلا أنفسهم وأطلق الاستغناء ليعم كل شيء .
ولما كان التعبير بذلك قد يوهم حدوث ما لم يكن له ، نفى ذلك بقوله مظهراً {[65743]}زيادة في العظمة{[65744]} : { والله } أي المستجمع لصفات الكمال من غير تقيد بحيثية { غني } {[65745]}عن الخلق جميعاً{[65746]} { حميد * } له صفة الغنى المطلق والحمد الأبلغ الذي هو الإحاطة بجميع أوصاف الكمال على الدوام أزلاً وأبداً ، لم يتجدد له شيء لم يكن .