سورة القيامة مكية وآياتها أربعون ، نزلت بعد سورة القارعة . وهي تعالج موضوع البعث والجزاء فإن هذا الموضوع جاء غريبا على المشركين الذين
لا يؤمنون به . وقد بدأت بالحديث عن يوم القيامة ، وأقسم الله بعظمة القيامة وبالنفس اللوامة الطماحة إلى الرقي ، التي لا ترضى بمرتبة إلا طلبت سواها ، ولا بحالة إلا أحبت ما تلاها ، ورامت ما فوقها . وهذا القسم كأنه استدلال على القيامة ، يقول : إن ما في النفوس من حب الرقي وعدم الوقوف عند حد محدود في هذه الحياة ، دليل على أن هناك حالا أخرى ينال فيها الإنسان ما كان يرغبه .
وأن هذا القسم وأمثاله لم يكن للعرب به عهد ، ولم يطرق آذانهم ، فإنهم تعودوا أن يُقسموا بالأشياء المعهودة فيما بينهم لا يتجاوزونها ، فيقسمون بالأب وبالعمر ، وبالكعبة . أما هذه الأقسام العجيبة فكانوا لا يعرفونها ، ولا يقسمون بها . . فإن فيها دلائل على ما يقصد في جوابها ، وفيها فتح باب البراهين والحكمة والعلم .
وبعد هذا القسَم العظيم بالقيامة وبالنفس اللوامة يؤكد الله تعالى أنه سيبعث الناس ويجمع عظامهم . وقد شرح ذلك بعض الشرح بقوله تعالى : { يسأل أيّان يوم القيامة ، فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجُمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ أين المفر } . فأتى بثلاث علامات على يوم القيامة ، وعند ذلك يعاين الإنسان الحقائق ، ويعلم أنه لا مفر من عذاب الله ، ويرى حسابه بنفسه وكل
ثم يأتي بأربع آيات فيها توجيه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتعليم خاص في شأن تلقي هذا القرآن العظيم ، ليطمئنه إلى أنّ أمر هذا الوحي ، وحفظ القرآن ، وجمعه وبيان مقاصده ، كل أولئك موكول إلى الله ، وما عليه إلا أن يتلقى ويبلّغ ما تلقى .
ثم يوجه الردع إلى من يحبون العاجلة ويذرون الآخرة ، ثم يوازن بين وجوه المؤمنين الناضرة ، ووجوه الكافرين الباسرة الكالحة المعبسة .
ثم يأتي الحديث عن حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردّا ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا . وهي تكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعفاء ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا لا حيلة ولا وسيلة ولا قوة ولا شفاعة { كلا إذا بلغت التراقي ، وقيل من راق ، وظن أنه الفراق ، والتفّت الساق بالساق ، إلى ربك يومئذ المساق } .
وبعد هذا المشهد الرهيب الذي حير البشر ، واستسلموا تجاهه لأمر الله ، تتحدث السورة عن النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا ، كما أنها بينة لا تُرد على يسر النشأة الأخرى ، { أيحسب الإنسان أن يُترك سدى ، ألم يكُ نطفة من مني يُمنى ، ثم كان علقة فخلَقَ فسوّى ، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ، أليس ذلك بقادر على أن يُحيي الموتى } ؟ كما قدر الله على الخلق الأول وأوجد الإنسان من نطفة لا ترى بالعين المجردة ، فمن الهيّن عليه أن يعيده خلقا جديدا .
وقد سميت السورة " سورة القيامة " بقوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } ولأنها تعالج هذا الموضوع بأسلوب عظيم ، وأداء ممتاز بعرض مشاهد يوم القيامة
وما يمس الإنسان من خلق وموت وحياة وتختم السورة كما بدئت بإثبات الحشر والمعاد .
لا أُقسِم بيوم القيامة : إن الامر لا يحتاج إلى قسم لأنه في غاية الوضوح .
{ 1 - 6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ }
ليست { لا } [ ها ] هنا نافية ، [ ولا زائدة ] وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها ، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين ، لا يستغرب الاستفتاح بها ، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح .
فالمقسم به في هذا الموضع ، هو المقسم عليه ، وهو البعث بعد الموت ، وقيام الناس من قبورهم ، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم .
قوله تعالى : " لا أقسم بيوم القيامة " قيل : إن " لا " صلة ، وجاز وقوعها في أول السورة ؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض ، فهو في حكم كلام واحد ؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى ، كقوله تعالى : " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون{[15599]} " [ الحجر : 6 ] . وجوابه في سورة أخرى : " ما أنت بنعمة ربك بمجنون{[15600]} " [ القلم : 2 ] . ومعنى الكلام : أقسم بيوم القيامة ، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة ، ومثله قول الشاعر :
تذكرت ليلَى فاعترتني صَبَابَةٌ *** فكاد صميمُ القلبِ لا يَتَقَطَّعُ
وحكى أبو الليث السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى " لا أقسم " : أقسم . واختلفوا في تفسير : " لا " قال بعضهم : " لا " زيادة في الكلام للزينة ، ويجري في كلام العرب زيادة ( لا ) كما قال في آية أخرى : " قال ما منعك أن تسجد " [ ص : 75 ] . يعني أن تسجد ، وقال بعضهم : " لا " : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث ، فقال : ليس الأمر كما زعمتم .
قلت : وهذا قول الفراء . قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون " لا " صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة ؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم ( في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ{[15601]} ) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل " فلا " رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه . وأنشد غير الفراء لامرئ القيس :
فلا وأبيك ابنةَ العامري *** لا يَدَّعِي القومَ أني أَفِرّْ
ألا نادت أمامةُ باحتمال *** لتُحزنني فلا بِكِ ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد . قال الفراء : وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ " لأقسم " بغير ألف ، كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم ، وهو صواب ؛ لأن العرب تقول : لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز " بيوم القيامة " أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.