الآفاق : جمع أفق بضم الفاء وإسكانها . والأفق : الناحية ومنتهَى ما تراه العين من الأرض .
سنري هؤلاء المشركين دلائلنا على صِدقك ، وأنّه وعدُ الله لعباده جميعا ، وذلك بأن نطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ومن خفايا أنفسهم على السواء . فقد كشف العلم عن أمور كثيرة عن الأرض وما عليها ، وعن النظام الشمسي وما فيه ، وأن هذه الأرض وما حولها ما هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس ، التي هي وما حولها ذرة صغيرة تسبح في هذا الكون الفسيح ، وعرف الناس عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير ، وأن كل هذه المعلومات والاكتشافات ما هي إلا ذرة من علم الله . { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] .
وكذلك سنري هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد والفتوحات التي تمت على يدي الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه ، وعلى يدي خلفائه وأصحابه الكرام { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } وأن كل ما جاء به الرسول الكريم هو الحق .
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم ، وعلى صدق محمد فيما أخبر به عنه . . ألم تكفِهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحَها سبحانه في هذه السورة وفي كل القرآن ، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانيته ، وتنزيهه عن كل نقص ! !
فإن قلتم ، أو شككتم بصحته وحقيقته ، فسيقيم اللّه لكم ، ويريكم من آياته في الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض ، وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة ، الدالة للمستبصر على الحق .
{ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } مما اشتملت عليه أبدانهم ، من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته ، وباهر قدرته ، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين ، ونصر المؤمنين . { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ } من تلك الآيات ، بيانًا لا يقبل الشك { أَنَّهُ الْحَقُّ } وما اشتمل عليه حق .
وقد فعل تعالى ، فإنه أرى عباده من الآيات ، ما به تبين لهم أنه الحق ، ولكن اللّه هو الموفق للإيمان من شاء ، والخاذل لمن يشاء .
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : أولم يكفهم على أن القرآن حق ، ومن جاء به صادق ، بشهادة اللّه تعالى ، فإنه قد شهد له بالتصديق ، وهو أصدق الشاهدين ، وأيده ، ونصره نصرًا متضمنًا لشهادته القولية ، عند من شك فيها .
ولما كان هذا محزناً للشفوق عليهم لإفهامه لشدة بعدهم عن الرجوع ، قال منبهاً على أنه إذا أراد سبحانه قرب ذلك منهم غاية القرب لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بسهولة ذلك عليه : { سنريهم } أي عن قرب بوعد لا خلف فيه { آياتنا } أي على ما لها من العظمة { في الآفاق } أي النواحي ، جمع أفق كعنق وأعناق ، أبدلت الهمزة الثانية ألفاً لسكونها بعد مثلها ، أي وما ظهر من نواحي الفلك أو مهب الرياح ، وذلك بما يفتح الله من البلاد بغلب أهلها بوقائع كل واحد منها علم من أعلام النبوة ، وشاهد عظيم كاف في صحة الرسالة ، تصديقاً لوعده سبحانه وما أهلك من أهلها لنصر أنبيائه ورسله وبما فيها من عجائب الصنع وغرائب الآثار والوضع باختلاف الأحكام مع اتفاق جواهرها في التجانس - وغير ذلك من الآيات المشاهدة بالبصر اللاتي يشرحها بآيات السمع .
ولما كان الإيمان بالغيب هو المعتبر ، وكل ما كان أقرب إليه كان أقرب إلى الكمال ، وكانت آيات الآفاق أقرب إلى ذلك ، بدأ بها ، ثم قال : { وفي أنفسهم } أي من فتح مكة وما أصابهم من سني الجوع وقصة أبي بصير ونحو ذلك ، وتفصل لهم مع ذلك ما في الآدمي نفسه من بدائع الآيات وعجائب الخلق وغرائب الصنعة وما فيه من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف وغير ذلك من الشواهد المطابقة لما تضربه من الأمثال والدلائل المعقولة عند اعتبار الأقوال والأفعال ، وبما في بلاد العرب من الآيات المرئية من نفي بعد إسراعهم إليه وإطباقهم عليه وإثبات التوحيد عن جميعهم بعد إبعادهم عنه وقتالهم الداعي إليه ، وقد بين سبحانه في هذه من آيات الآفاق في آية { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } وما شاكلها ، وفي الأنفس في آيات { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود والذي من بعدهم } ونحوها ، وآيات { لا يسئم الإنسان من دعاء الخير } إلى آخرها الدالة على أن الإنسان مبني أمره على الجهل والعجز ، فأكثر ما يتصوره ليس كما تصوره ، فعليه أن يتأمل كتاب ربه ويتدبره - والله أعلم ، قال الرازي في اللوامع : الاستدلال بالأفعال على فاعلها واضح وطريق لائح ، والأفعال على قسمين أحدهما الآفاق وهو جملة العالم ، والثاني النفوس ، فإن من عرف نفسه عرف ربه ، أي من عرف روحه وكونها جوهراً متصرفاً في البدن تصرف التدبير وعلم صفاتها من أنها باقية بغير البدن لا يحتاج في قوامها إلى البدن ، بل البدن محتاج إليها وأنها محل المعرفة فمن عرف أمثال هذه المعارف عرف ربه وصفاته من وحدانيته وعلمه وقدرته وإرادته وتصرفه في جملة العالم يعني وأن وجوده تعالى مباين وجود غيره .
ولما كان التقدير : ولا نزال نواتر ذلك شيئاً في أثر شيء ، عطف عليه قوله : { حتى يتبين لهم } غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر { أنه } أي القرآن { الحق } الكامل في الحقية الذي تطابقه الوقائع وتصادقه الأحوال العارضة والصنائع ، فيجتمعوا عليه ويُقبلوا بكل قلوبهم إليه ، فلا يأباه في جزيرة العرب إنسان ، ولا يختلف فيه منهم اثنان ، ثم ينبثون في أرجاء الأرض بطولها والعرض فيظهر بهم على سائر الأديان ، ويبيد على أيديهم أهل الكفران ، في سائر البلدان ، ويزول كل طغيان ، فيكون ظهورهم في هذا الوقت وضعف المؤمنين بعد أن كان سبباً لازديادهم من الكفر عظة لهم ولكل من يأتي بعدهم يوجب الثبات في محال الزلزال علماً بأن الله أجرى عادته أن يكون للباطل ريح تخفق ثم تسكن ، ودولة تظهر ثم تضمحل ، وصولة تجول ثم تحول .
ولما كان هذا القول منبهاً على أن في الآفاق والأنفس من الآيات المرئية التي يقرأها أولو الأبصار بالبصائر ، ويتأملها أهل الاعتبار بأعين السرائر ، أمراً لا يحيط به الوصف ، فكان حادياً على تجريد الأفكار للنظر والاعتبار ، والوقوف على بعض ما في ذلك من لطائف الأسرار ، كان كأنه قيل : ألم يروا بعقولهم ما في ذلك من الأدلة على أن القرآن من عند الله فيكفيهم عن شهادة شيء خارج عن أنفسهم ، عطف عليه قوله : { أو لم يكف } وأكد بإدخال الجار ، وحقق الفاعل فقال مؤكداً بالباء ومحققاً أنه الفاعل صارفاً القول إلى وصف الإحسان إيذاناً بالرفق بهم بردِّهم إليه دون ارتكابهم ما يوجب نكالهم وإهلاكهم واستئصالهم : { بربك } أي المحسن إليك بهذا البيان المعجز للإنس والجان شهادة بأنه من عنده { أنّه } أي أو لم يكف شهادة ربك لأنه { على كل شيء شهيد * } لا يغيب عنه شيء من الأشياء ، لا هذا القرآن ولا غيره ، وقد شهد لك فيه بإعجازه لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته ، ونطقت به كلماته ، ففيه أعظم بشارة بتمام أمر الدين وظهوره على المعتدين ، وذلك لأن كل أحد يجد في نفسه أنه إذا أراد ثبوت حق ينكره من هو عليه ولصاحب الحق من الشهود ما يتحقق قولهم فيه ووصوله بهم إليه أنه يكون مطمئناً لا ينزعج بالجحد علماً منه بأن حقه لا بد أن يظهر ويخزي معانده ويقهر ، وفي هذا تأديب لكل من كان على حق ولا يجد من يساعده على ظهوره فإن الله شاهده فلا بد أن يظهر أمره فتوكل على الله إنك على الحق المبين .