سورة المزمل مكية وآياتها عشرون ، نزلت بعد سورة القلم . وقد سميت " سورة المزمل " بقوله تعالى { يا أيها المزمل } والمتزمل هو المتلفف بثيابه ، وهذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم . وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه ، فهو مخيّر بين هذه الثلاثة . وأمر بأن يرتل القرآن ترتيلا ، أي يقرأه بتؤدة وبيان وهدوء . وأخبره تعالى أنه سيُلقي عليه قولا ثقيلا ، أي قرآنا مشتملا على الأوامر والنواهي والتكاليف الشاقة ، وأن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتسبيح والتمجيد ، وأن يجرّد نفسه عما سواه . . ، ويتخذه وكيلا في كل أموره . . وأن يصبر على ما يقولون فيه وفي ربه من أقوال جارحة ( من أنه ساحر أو شاعر ، ومن أن الله له صاحبة وولد ) . كذلك طُلب إليه أن يهجر الكفار هجرا جميلا ، بمجانبتهم ومداراتهم . . ، ويكل أمرهم إلى الله ، وأن يتمهل زمانا قليلا فسيرى عاقبته وعاقبتهم .
وقد تلقى المؤمنون هذه الأوامر فكان الرجل يصلي الليل كله مخافة ألا يصيب ما أمر الله به من القيام . وكان إحصاء الليل شاقا عليهم ، إذ لم يكن عندهم ساعات يضبطون بها أوقاتهم ، فانتفخت أقدامهم من طول القيام . فخفّف الله عنهم ذلك وأمرهم بما تيسّر من صلاة الليل . ثم خفّّف ذلك كله وأمرهم بالصلوات الخمس ، لأن المسلمين منهم المريض والمسافر وغير ذلك . فالصلاة المفروضة كافية للأمة مع إيتاء الزكاة وإدامة استغفار الله والصدقة { فاقرأوا ما تيسّر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } .
المزمل : المتلفف بثيابه ومثله المتزمل ، يقال ازَّمَّل وتزمل بثوبه التفّ به وتغطى ، وزمَّل غيره إذا غطاه . .
هذه الآية والآياتُ التي بعدها من أولِ ما نزلَ من الوحي على الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم ، وقد روي في الأحاديث الصحيحة أنه لما جاءه جبريلُ وهو في غار حِراء في أول الوحي خافه الرسول ، وظنّ أن به هو مسّاً من الجنّ ، فرجع من غار حِراء مرتعِدا يرجُف فؤادُه ، فقال لأهله : زمِّلوني زملوني ، لقد خشيتُ على نفسي . وأخبر خديجةَ الخبر . فنزلت هذه الآياتُ :
{ يا أيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } .
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا }
المزمل : المتغطي بثيابه كالمدثر ، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته ، وابتدأه بإنزال [ وحيه بإرسال ] جبريل إليه ، فرأى أمرا لم ير مثله ، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون ، فاعتراه في ابتداء ذلك{[1258]} انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام ، فأتى إلى أهله ، فقال : " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه ، ثم جاءه جبريل فقال : " اقرأ " فقال : " ما أنا بقارئ " فغطه حتى بلغ منه الجهد ، وهو يعالجه على القراءة ، فقرأ صلى الله عليه وسلم ، ثم ألقى الله عليه الثبات ، وتابع عليه الوحي ، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين .
فسبحان الله ، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها ، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره .
{ يا أيها المزمل } نداء للنبي صلى الله عليه وسلم ووزن المزمل متفعل فأصله متزمل ثم سكنت التاء وأدغمت في الزاي وفي تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالمزمل ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كان في وقت نزول الآية متزملا في كساء أو لحاف والتزمل الالتفاف في الثياب بضم أو تشمير هذا قول عائشة والجمهور .
والثاني : أنه كان قد تزمل في ثيابه للصلاة .
الثالث : أن معناه المتزمل للنبوة أي : المتشمر المجد في أمرها والأول هو الصحيح لما ورد في البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة ترعد فرائصه فقال : " زملوني زملوني فنزلت يا أيها المدثر " ، وعلى هذا نزلت { يا أيها المزمل } فالمزمل على هذا تزمله من أجل الرعب الذي أصابه أول ما جاءه جبريل وقال الزمخشري : وكان نائما في قطيفة فنودي { يا أيها المزمل } ليبين الله الحالة التي كان عليها من التزمل في القطيفة لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل وهذا القول بعيد غير سديد ، وقال السهيلي في ندائه بالمزمل فائدتان :
إحداهما : الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : " قم أبا تراب " .
والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبه إلى ذكر الله لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة .
سورة المزمل{[1]}
مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال ، وتخفف الأحمال الثقال ، ولا سيما الوقوف بين يدي الملك المتعال ، والتجرد في خدمته في ظلمات الليال ، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال ، ومحو ظلل الضلال ، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال ، لما يرد{[2]} من الكدورات في دار الزوال ، والقلعة والارتحال ، واسمها المزمل أدل{[3]} ما فيها على هذا المقال { بسم الله } الكافي من توكل عليه في جميع الأحوال { الرحمن } الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان{[4]} المهدي والضال{[5]} { الرحيم } الذي خص حزبه بالسداد في الأقوال والأفعال لإيصالهم إلى دار الكمال .
لما تقدم في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما{[69344]} له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده{[69345]} من غيبه صلى الله عليه وسلم أول{[69346]} هذه إلى القيام بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب ، والبسط والجلوة لمن دق الباب ، للاعتلاء و{[69347]}المتاب ، المهيىء لحمل أعباء الرسالة ، والمقوي على أثقال المعالجة{[69348]} لأهل الضلالة ، فقال معبراً بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة ، أشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقض للمألوفات المطردات ، وأما التزمل{[69349]} فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية ، فهو دون ما يراد {[69350]}من التهيئة{[69351]} لذلك الاستعداد ، وبالتزمل{[69352]} لكونه منافياً للقيام في الصلاة : { يا أيها المزمل * } أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به - بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد ، ولأنه يكون منطرحاً على الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد -{[69353]} " زملوهم بثيابهم ودمائهم " مع الإشارة إلى الإخفاء أيضاً بإدغام تاء التفعل ، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن ، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به ، من قولهم : زمل الشيء - إذا رفعه وحمله ، والازدمال : احتمال الشيء ، وزملت الرجل على البعير وغيره - إذا حملته عليه ، ومن زملت الدابة في عدوها - إذا نشطت ، والزامل من حمر الوحش الذي كأنه يظلع من نشاطه ، ورجل إزميل : شديد ، والزاملة : بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه ، ويقال للرجل العالم{[69354]} بالأمر : هو ابن زوملتها ، وقال ابن عطاء : يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية ! هذا أوان كشفه ، وقال [ عكرمة-{[69355]} ]{[69356]} : يا أيها الذي حمل هذا الأمر ، وقال السدي{[69357]} : أراد يا أيها النائم ، وقال غيره : {[69358]}كان هذا{[69359]} في ابتداء الوحي بالنبوة ، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة ،