ودُّوا لو تدهن : أحبوا أن تداري وتلين لهم بالمصانعة والمقاربة بالكلام ، فيدهنون : فيقاربون ويدارون . والمداهنة : أن يُظهر الرجل في أمره خلاف ما يضمر .
فقد تمنَّوا لو تتركُ بعضَ ما أنتَ عليه وتلينُ لهم وتصانِعُهم فَيَلينون لك طمعاً في تَجاوُبك معهم .
وقد حاول زعماءُ قريشٍ أن يساوموه ، وأن يجمعوا له الأموال ، وأن يُمَلِّكوه عليهم ، وهم لا يَعلمون أن هذا الرسول الكريم فوقَ هذا كلّه ، لا يريدُ منهم جزاءً ولا شُكورا ، ولا يريد إلا هدايتَهم إلى هذا الدينِ القويم .
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم . وعن ابن عباس أيضا : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك . وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك . والادهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين ، قاله الفراء . وقال مجاهد : المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك . وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب فيكذبون . وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك . الحسن : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم . وعنه أيضا : ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم . زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون . وقيل : ودوا لو تضعف فيضعفون ، قاله أبو جعفر . وقيل : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم ، قاله القتبي . وعنه : طلبوا منه أن يعبد ألهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة . فهذه اثنا عشر قولا . ابن العربي : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة والمعنى . أمثلها قولهم : ودوا لو تكذب فيكذبون ، ودوا لو تكفر فيكفرون .
قلت : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ، فإن الإدهان : اللين والمصانعة . وقيل : مجاملة العدو ممايلته . وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول . قال الشاعر :
لبعض الغَشْمِ أحزم في أمور *** تنوبك من مداهنة العدو
وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة . فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة ، وكل شيء منها لم يكن . قال المبرد : يقال أدهن في دينه وداهن في أمره ، أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر . وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت ، قال الجوهري . وقال : " فيدهنون " فساقه على العطف ، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا . وإنما أراد : إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك ، عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة ، وإنما هو تمثيل وتنظير .
ثم علل ذلك بما يكون مجموعه على وقوعه منهم من مدة طويلة وهم مستمرون عليه بقوله : { ودوا } أي أحبوا محبة عظيمة{[67425]} واسعة متجاوزة للحد قديماً مع الاستمرار على ذلك{[67426]} وأكد تهالكهم على هذه الودادة{[67427]} بما يفهم التمني وإن ذلك مستمر منهم {[67428]}لا أنه{[67429]} وقع ومضى ، فقال مشيراً إلى إفسادهم القوة النطقية وخلق الشجاعة الغريزية : { لو تدهن } أي تلاين فتوافق على{[67430]} بعض ما يريدون فتهادنهم{[67431]} على ترك نهيهم عن الشرك وترك التعرض لسب آلهتهم وتسفيه{[67432]} أحلامهم وتضليل آبائهم ؛ قال ابن برجان : والإدهان ملاينة {[67433]}وانجرار{[67434]} بالباطل وإغماض عن الحق مع المعرفة بذلك - انتهى .
وهو من الدهن لأنه يلين ما يدهن به{[67435]} .
ولما {[67436]}كان من طبعهم أنهم{[67437]} كانوا يلينون له صلى الله عليه وسلم بعض الأوقات خداعاً{[67438]} كما قيل في سبب نزول " الكافرون " من أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم : تعالى فلنصطلح على أن نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ، ونحو هذا من الأباطيل حتى{[67439]} أنهم سجدوا وراءه صلى الله عليه وسلم لما تلا عليهم سورة النجم فسجد فيها فسجد وراءه الكفار والمؤمنون والجن والإنس ، حتى سمع المهاجرون إلى الحبشة وهم بالحبشة فرجع بعضهم{[67440]} ظناً{[67441]} منهم{[67442]} أنهم قد أسلموا فوجدوهم على أخبث ما كانوا عليه أولاً{[67443]} ، قال سبحانه معرفاً بأن ذلك منهم خداع : { فيدهنون * } أي فبسبب ودادتهم أنك تدهن هم{[67444]} يدهنون ، فهو عطف على " ودوا " لا{[67445]} جواب " لو " لأجل تنبيهه صلى الله عليه وسلم على أن لينهم إنما هو خداع لم يرد به غير الفساد ، وقد أخروا الإدهان وإن كانوا قديماً في{[67446]} وداده طمعاً في أن تبدأ به فيظهروه{[67447]} حينئذ ، قال القشيري : من أصبح عليلاً تمنى أن يكون الناس كلهم مرضى .
قوله : { ودوا لو تدهن فيدهنون } تدهن من الإدهان والمداهنة . وهي المصانعة أو المواربة{[4596]} يعني : ود المشركون لو تصانعهم في دينك يا محمد فيصانعونك في دينهم . أو ودوا لو تعبد آلهتهم مدة من الوقت ليعبدوا إلهك مدة . فقد طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يداهنهم أو يصانعهم في دين الله ، فيتخلى عن بعضه ليتخلوا هم عن بعض دينهم . وذلك هو اللين أو المصانعة والمجاملة للكافرين على حساب دين الله . وذلك هو ديدن الكافرين وأعوانهم في كل زمان . فهم يودون أن يداهنهم دعاة الإسلام ليكفوا عن الدعوة إلى دين الله ، أو لينكفّوا ويجحموا عن بعض قواعده وأحكامه ، ومنها قضايا السياسة والجهاد وغير ذلك من قضايا الأحوال الشخصية ، أو رفض المفاصلة الواضحة بين عقيدة التوحيد الخالص وغيره من ملل الهوى والشرك .
فما يجوز لمسلم البتة أن يلاين الكافرين أو يداهنهم ، فينكفّ عن شيء من أحكام الإسلام ، ليرضى عنه الكافرون الظالمون وأعوانهم من المتمالئين ، وإنما يبتغي المسلم في كل الأحوال مرضاة الله وحده ، فهو بذلك لا يرتضي بغير منهج الله وشرعه بديلا ، ويأبى التنازل عن شيء من أحكامه مهما قل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.