وبعد أن بيّن ما أعدّ لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ختم هذه السورة المباركة بختام عظيم بيّن فيه تعالى أنه وحده له ملكُ السماوات والأرض وما فيهن ، فهو وحده المستحق للعبادة .
أي أن الملك كله والقدرة كلها لله وحده فلا يجوز لإنسان أن يتوجه إلا إليه .
وقد روى الإمام أحمد والنّسائي والحاكم والبيهقي عن جُبير بن نفير الحضرمي الشامي ، ( أحد المخضرمين ، أسلم في زمن أبي بكر ) قال : حججتْ فدخلت على عائشة ، فقالت : يا جبير ، تقرأ المائدة ؟ قلت : نعم . فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم من حرام فحرموه .
والحقيقة أن سورة المائدة من أعظم السور في القرآن الكريم لما اشتملت عليه من أحكام وإرشادات وبيان للحقائق بعد أن استتب الأمر للمسلمين . وفيها ما يرشد إلى الوقت الذي نزلت فيه ، والحالة الّتي صار إليها المسلمون في ذلك الوقت . فقد جاء فيها بعد أن فصّل الله المحرّمات قوله تعالى : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } تُقَرِّر أن المشركين الذين كانوا يعملون دائما على قهر المسلمين وإذلالهم وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وفتنتهم عن دينهم ، صاروا من كل ذلك في عجز وضعف ، واستولى عليهم اليأس في الوصول إلى أغراضهم .
وعليه فيجب على المسلمين وقد عَصَمهم الله من أعدائهم ، وبدّل بضعفهم قوة ، وبخوفهم أمنا ، أن يشكروا الله رب هذه النعمة ، وأن لا يكترثوا في إقامة دينه وتنفيذ أحكامه بأحد سواه . فلقد يئس المشركون بإكمال الدين . وإكمالُ الدين يتناول إكمالَه بالبيان والتشريع ، وبالقوة والتركيز .
وقد روي أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إن في كتابكم آية تقرؤونها لو أنها أُنزلت علينا-معشر اليهود- لاتخذْنا اليوم الذي أُنزلت فيه عيدا . قال عمر : وأية آية ؟ قال { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } . فقال عمر : إنّي والله لأعلم اليوم الذي أُنزلت فيه والساعة التي نزلت فيها . نزلت على رسول الله عشيّة عَرَفة في يوم جمعة ، والحمدُ لله الذي جعله لنا عيدا .
وفي هذه السورة المباركة ظواهر تنفرد بها لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور المدنية حتى في أطول سوَر القرآن وهي سورة البقرة . ولذلك نرى أن كل ما يدور الحديث عنه في سورة المائدة يتعلق بأمرين بارزين : تشريع للمسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون ، وإرشادات لطُرق المحاجّة في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب .
وفي سياق هذه المحاجَة تعرض السورة لكثير من مواقف الماضين من أسلاف أهل الكتاب مع أنبيائهم ، تسليةَ للنبي من جهة ، وتنديداً بهم عن طريق أسلافهم من جهة أخرى .
وقد اشتملت على عدة نداءات إلَهية للمؤمنين ، يُعتبر كل واحد منها قانوناً لشأن من الشئون ، فنادى الله تعالى عباده المؤمنين بما شرع لهم من أحكام ، وأرشد إليه من أخلاق في مواضع لم نر عددها في أطول سورة وهي البقرة ، نذكرها بالترتيب :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود . . . } .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله . . . . } .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ . . . . } .
{ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط . . . . } .
{ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ . . . . } .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ . . . . } .
{ يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم . . . . } .
{ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية . . . . } .
هذه ستة عشرة نداءً وُجّهت إلى المؤمنين خاصة ، يعتبر كل نداء منها قانوناً ينظم ناحية من نواحي الحياة عند المسلمين بأنفسهم ، وفيما يختص بعلاقتهم بأهل الكتاب .
وفيها كذلك نداءات من الله لرسوله ، وليس هناك نداء له عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف في غير هذه السورة : وهما قوله تعالى :
{ يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ،
وقوله تعالى : { يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } .
وقد وجهت نداءين إلى أهل الكتاب : وهما قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } ،
{ يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل } .
وأمرت الرسول الكريم ثلاث مرات أن يوجه إليهم النداء في موضوعات ثلاثة في شأن ما يثيرون به الخلاف بينه وبينهم .
{ قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ } .
{ قُلْ يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } .
{ قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } .
هذه جملة النداءات التي وجهت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى المسلمين ، وإلى أهل الكتاب ، أو أُمر النبي بتوجيهها إليهم في هذه السورة ، وقد مرت كلها في أثناء الكلام عليها باختصار ، ومن أراد زيادة تفصيل فليرجع إلى ما كتبه في التفسير أستاذنا المرحوم الشيخ شلتوت .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن توجهت قلوبهم إليه ، ولم يعتمدوا في قبولهم ونجاتهم إلا عليه ، وأن يجعل ثمرة إيماننا زكاة نفوسنا ، وثبات قلوبنا ، وصلاح أعمالنا ، وفكاك أسارنا .
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . والحمد الله رب العالمين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.