هي السورة السادسة من سور القرآن الكريم ، وهي مكية ، وآياتها مئة وخمس وستون نزلت بعد الحجر ، وقد نزلت جملة واحدة على قول معظم المفسرين والرواة . أما تاريخ نزولها فغير معروف بالضبط ، ولكن أقرب الأقوال أنها نزلت في السنة الخامسة أو السادسة من البعثة . ويعود ترجيح ذلك إلى تعدد الموضوعات التي تناولتها ، والتوسع في عرضها الذي تلمح منه الدعوة والجدل مع المشركين ، بسبب من طول الأعراض من طرفهم وإصرارهم على تكذيب رسول الله . وكل هذا يقتضي التوسع في عرض القضايا العقيدية على هذا النحو .
وفي المصحف الأميري أنها مكية إلا الآيات " 20 ، 23 ، 91 ، 92 ، 114 ، 141 ، 151 ، 152 ، 153 " .
أما الرواية عن قتادة وابن عباس فتقول إن السورة كلها مكية نزلت في ليلة واحدة جملة واحدة ، ما عدا آيتين منها نزلتا بالمدينة ، هما قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره . . } إلى قوله { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } ( 91 ) نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين . وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات الآية . . . } ( 141 ) نزلت في قيس بن ثابت أو في معاذ بن جبل .
ولسورة الأنعام منهج خاص في معالجتها للقضايا يخالف منهج السور المدنية الأربع التي سبقتها ، وهي : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة . فهذه السور تشترك كلها في هدف واحد ، هو تنظيم شئون المسلمين بالتشريع لهم على اعتبارهم أمة مستقلة ، وبإرشادهم إلى مناقشة جيرانهم أهل الكتاب فيما يتصل بالعقيدة والأحكام ، وإلى الأساس الذي يرجعون إليه ويحكمونه في التعامل معهم في السلم والحرب . وقلما تعرض هذه السور إلى شيء من شئون الشرك ومناقشة المشركين ، كما تفعل سورة الأنعام . ومع اشتراك هذه السور في أصل الهدف العام ، فإنها تختلف قلة وكثرة فيما تتناوله من التشريع الداخلي الخاص بالمسلمين ، والتشريع الخارجي بينهم وبين من يخالفهم في الدين .
أما سورة الأنعام فإنها تتميز عن تلك السور من حيث أهدافها ، فهي ، كسورة مكية ، لم تعرض لشيء من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين ، كالصوم والحج في العبادات ، والعقوبات في الجنايات ، والمداينة والربا في الأموال ، وأحكام الأسرة في الأحوال الشخصية .
كذلك لم تذكر شيئا عن القتال ومحاربة الخارجين على الدعوة ، كما لم تتحدث في شيء عن أهل الكتاب ، ولا طوائف المنافقين . ولا نجد في السورة نداء واحدا للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنظمها وحدة الإيمان ، لأن المجتمع الإسلامي ما كان قد تكون في تلك الفترة .
وتنهج سورة الأنعام منهجا خاصا في معالجتها للقضايا الكبرى التي شغلت العقول منذ القدم ، فتبدأ بالحمد لله ، تثبت استحقاقه وحده له ، وتسير في طريق نوع من أنواع التربية العامة ، وهو ذكر نوع الخلق والإيجاد للكائنات وظواهرها ، { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } .
ثم تسير في وصف عظمة الله في آياته الكونية ، سمائه وأرضه ، وتعرض لاستدلال إبراهيم على وحدانية الله بظاهرة البزوغ والأفول للأجرام السماوية التي لا ينفك الإنسان يقلب بصره فيها .
وأخيرا تقول في نتيجة هذا السبح الطويل : { بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ، وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ، ذلكم ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ، لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ، ومن عمي فعليها ، وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات ، وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون } .
فسورة الأنعام عرضت للعناصر الدينية الأولى ، وهي القضايا الكونية الكبرى التي شغلت العقل البشري منذ نظر في الآفاق . وقد كانت هذه القضايا من قديم الزمن ميدانا لاختلاف النظر ، واختلاف ما يدين به الإنسان في خلق العالم ، قديما وحاضرا . والواقع أن هذه القضايا هي التي تحاول نتائجها الإجابة عن أسئلة ثلاثة تتفاعل في نفس الإنسان وكثيرا ما يقف العقل البشري أمامها حائرا مضطربا .
وهذه القضايا هي : قضية الألوهية وعبادة الله ، وقضية الوحي والرسالة ، وقضية البعث والجزاء .
وقد تناولت سورة الأنعام هذه القضايا التي لو عرفتها البشرية وآمنت بها حق الإيمان ، لتخلصت من ظلمات المادة القاتلة ، واستخدمت تلك المادة في بلوغ أقصى درجات السعادة ، وحققت حكمة الله في خلق الإنسان ، وفي إرسال الرسل إلى الناس .
وقد جاء في تضاعيف هذه السورة تصوير متكرر بعبارات مختلفة وأساليب متعددة في هذه القضايا الثلاث .
قضية الألوهية : فمن تصوير قضية الألوهية : { قل أغير الله أتخذ وليا ، فاطر السماوات والأرض } . { قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } . { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } . { قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } . { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ، وهو على كل شيء وكيل } . { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له } . { قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء } .
قضية الوحي والرسالة : ومن تصوير قضية الوحي والرسالة : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } . { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } . { اتبع ما أوحي إليك من ربك } { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين } . { الله أعلم حيث يجعل رسالته } .
قضية البعث : ومن تصوير قضية البعث : { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا يرب فيه } . { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ، وللدار الآخرة خير للذين يتقون ، أفلا تعقلون } { لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون } . { ويوم يقول كن فيكون ، قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور } . { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } .
هذه نماذج من تصوير سورة الأنعام للقضايا الثلاث التي دار حديثها حولها . وهو تصوير يحمل توجيها واضحا وقويا إلى الحجة والبرهان ، وحسب المنصف في نظره وتدبره أن ينظر فيتفهمه على وجهه الحق ويدرك إشارته وإيحاءه .
ثم تنتهز السورة من الحديث في التحليل والتحريم فرصة لدعوة الناس إلى ما حرم الله في وصايا عشر ، ترجع إلى العقيدة وإلى الأموال والأنفس والمعاملة والفواحش والعدل والوفاء بالعهد . ثم تكون الوصية العاشرة : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } .
ثم تختم السورة – بعد أن تقطع أعذار المشركين وتتوعدهم على الإعراض عن الحق – بآية تكشف للإنسان مكانته عند ربه في هذه الحياة ، فهو خليفة في الأرض ، جعل الله عمارة الكون تحت يديه . وقد فاوت الخالق في المواهب بين أفراد الإنسان لغاية سامية وحكمة عظيمة ، هي الابتلاء في مواقف هذه الحياة . { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم }
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن في تركيز الدعوة الإسلامية ، تقرر حقائقها وتفند شبه المعارضين لها ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تنزل جملة واحدة ، وقد شاركها في البدء بالحمد أربع سور مكية هي : الفاتحة ، والكهف ، وفاطر ، وسبأ .
يقول الإمام القرطبي في تفسيره : " قال العلماء : إن هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنشور . وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة " .
مناسبة هذه السورة لما قبلها : إن من نظر في ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة . ومن الحكمة أن في ذلك عونا على تلاوته وحفظه ، فالناس يبدأون بقراءته من أوله ، فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين ، فالمثاني ، فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط . ويبدأون من آخره ، لأن ذلك أسهل على الأطفال . ولكن في كل قسم من الطوال والمئين والمفصل تقديما لسور قصيرة على سور أطول منها ، ومن حكمة ذلك أنه قد روعي التناسب في معاني السور مع التناسب في السور ، أي مقدار الطول والقصر .
والسبع الطوال أولها البقرة وآخرها التوبة . وسور المئين ما كانت آياتها أكثر من مائة أو قريبا منها . والمثاني ما كانت آياتها أقل من مائة مما قبل المفصل ، وقد سميت مثاني لأنها ثانية المئين أو لأنها تثنى وتعاد كثيرا في التلاوة- وسميت الفاتحة المثاني لهذا المعنى أيضا . أما المفصل فقد سمي كذلك لكثرة الفصل بين سوره .
وقد تقدم سورة الأنعام أربع سور طوال مدنية ، وجاء بعدهن سورتا الأنعام والأعراف المكيتان ، وبعدهما سورتا الأنفال والتوبة المدنيتان ، وتقعان في أوائل الربع الثاني من القرآن . وما بعدهما من سور النصف الأول من القرآن كله مكي . وسور الربع الثالث كلها مكية ، إلا سورة النور فإنها مدنية ، وسورة الحج فهي مختلطة . أما الربع الرابع فهو مختلط وأكثره سور المفصل التي تقرأ في الصلاة . وهنا يحسن أن نبين مناسبة جعل سورتي الأنعام والأعراف المكيتين بعد السور الأربع المدنية وقبل الأنفال والتوبة ، ثم مناسبة الأنعام للمائدة .
إن سورة البقرة أجمع سور القرآن لأصول الإسلام وفروعه ، ففيها بيان التوحيد والبعث والرسالة العامة والخاصة ، وأركان الإسلام العملية . وفيها بيان الخلق والتكوين ، وأحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في دعوة القرآن ، ومحاجة والجميع . فيها بيان أحكام المعاملات المالية ، والقتال ، والزوجية ، والسور الطوال التي بعدها متممة لما فيها ، فالثلاث الأولى منها مفصلة لكل ما يتعلق بأهل الكتاب ، لكن البقرة أطالت في محاجة اليهود خاصة ، وأطالت آل عمران في محاجة النصارى في نصفها الأول ، وحاجتهم سورة النساء في أواخرها ، واشتملت في أثنائها على بيان شئون المنافقين مما أجمل في سورة البقرة . ثم أتمت سورة المائدة محاجة اليهود والنصارى فيما يشتركان فيه وفيما ينفرد كل منهما به .
ولما كان أمر العقائد هو الأهم المقدم في الدين ، وكان شأن أهل الكتاب فيه أعظم من شأن المشركين ، قدمت السور المشتملة على محاجتهم بالتفصيل ، وناسب أن يجيء بعدها ما فيه محاجة المشركين بالتفصيل . وتلك سورة الأنعام لم تستوف مثله سورة مثلها ، فهي متممة لشرح ما في سورة البقرة مما يتعلق بالعقائد .
وجاءت سورة الأعراف بعدها متممة لشرح ما فيها ومبينة لسنن الله تعالى في الأنبياء والمرسلين وشئون أممهم معهم . وهي حجة على المشركين وأهل الكتاب جميعا . لكن سورة الأنعام فصلت الكلام في إبراهيم الذي ينتمي إليه العرب وأهل الكتاب في النسب والدين ، فيما فصلت سورة الأعراف الكلام في موسى الذي ينتمي إليه أهل الكتاب ويتبع شريعته جميع أنبيائهم حتى عيسى ابن مريم .
ولما تم بهذه الصورة تفصيل ما أجمل في سورة البقرة من العقائد في الإلهيات والنبوات والبعث ، ناسب أن يذكر بعدها تكملة ما أجمل فيها من الأحكام ، ولا سيما أحكام القتال والمارقين والمنافقين .
وبذلك يتبين أن ركن المناسبة الأعظم بين سورتي المائدة والأنعام أن المائدة معظمها في محاجة أهل الكتاب ، والأنعام في محاجة المشركين . ومن التناسب بينهما في الأحكام أن سورة الأنعام قد ذكرت أحكام الأطعمة المحرمة في دين الله والذبائح بالإجمال ، فيما ذكرت سورة المائدة ذلك بالتفصيل .
والخلاصة : أن سورة الأنعام نبهت الناس إلى الكون وما فيه من دلالة على عظم المنشئ وجلاله ووحدانيته ، كذلك تضمنت السورة قصص بعض النبيين ، بدءا بقصة إبراهيم ، وكيف أنه أخذ معنى الوحدانية من مطالعة كتاب الكون ، انطلاقا من النجوم ، فالقمر ، ثم الشمس ، وانتهى إلى عبادة الله وحده ، كما وجهت الأنظار إلى عجائب الخلق : كيف ينبت الحي الرطب من الجامد اليابس ، وكيف ينفلق الحب فيكون منه النبات .
وقد ذكرت السورة صفات الجاحدين ، وكيف يتعلقون بأوهام تبعدهم عن الحق وتضلهم . ومن ذلك انطلقت إلى بيان هذه الأوامر التي هي خلاصة الإسلام والأخلاق الحميدة ، وهي : تحريم الشرك ، والزنى ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، ووجوب إيفاء الكيل والميزان ، وتحقيق العدالة ، والوفاء بالعهد ، والإحسان إلى الوالدين ، ومنع وأد البنات . وهذه التي سماها بعض العلماء " الوصايا العشر " .
هذه سورة الأنعام في جملتها ، وفي أسلوبها ، وفي مقارنتها بسواها ، وفيما امتازت به عن غيرها . ومن ذلك يظهر أنه لا مجال للقول بأن بعضها مدني ، ولا بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا . أنها كلها جملة واحدة ، نزلت لغاية واحدة هي تركيز الدعوة بتقرير أصولها ، والدفاع عنها ، على الوجه الذي بيناه .
الحمد : الثناء الحق والذكر الجميل .
الظلمة : الحال التي يكون عليها كل مكان لا نور فيه ، والنور قسمان : حِسّي وهو ما يدرك بالبصر ، ومعنويّ وهو ما يدرَك بالبصيرة .
الجَعل : الإنشاء والإبداع كالخلق ، إلا أن الجعل مختص بالإنشاء التكويني كما في هذه الآية ، وبالتشريعي كما في قوله تعالى : « ما جعل الله من بَحيرة ولا سائبة »الآية .
ولم يذكر النور في القرآن إلا مفرداً ، والظلمة إلا جمعاً . وذلك لأن النور واحد حتى لو تعددت مصادره ، فيما تتم الظُلمة بعد حجب النور واعتراضه ، ومصادر ذلك كثيرة . وكذلك حال النور المعنوي ، فهو شيء واحد فيما الظلمات متعددة . فالحق واحد لا يتعدد ، والباطل الذي يقابله كثير . والهدى واحد ، والضلال المقابل له كثير . وقُدمت الظلمات في الذكر على النور لأنها سابقة عليه في الوجود ، فقد وُجدت مادة الكون وكانت سديما كما يقول علماء الفلك ، ثم تكوّنت الشموس والأجرام بما حدث فيها من الاشتعال لشدة الحركة . وإلى هذا يشير حديث عبد الله بن عمرو : « إن الله خلق الخلق في ظلمة ، ثم رشّ عليهم من نوره ، فمن أصابه نورُه اهتدى ، ومن أخطأهُ ضل » رواه أحمد والترمذي . ويؤيده قوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ ، فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ أتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } .
ومثلُ ما سبق أن الظلمات المعنوية أسبقُ في الوجود ، فان نور العلم والهداية كسبيٌ في البشر ، وغير الكسبيِّ منه الوحي ، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يعدلون : يجعلون له عديلاً مساوياً في العبادة ، أي : يتخذون له أندادا .
الثناء والذِكر الجميل لله ، الذي خلق هذا الكون وما فيه مما نراه وما لا نراه ، وأوجد الظلمات والنور لمنفعة العباد . ثم مع هذه النعم الجلية يُشرِك به الكافرون ويجعلون له شريكاً في العبادة ! !
بدأت سورة الأنعام هنا في آياتها الأولى ، فركّزت اتجاهها نحو القضايا الثلاث التي أشرنا إليها : الألوهية ، الوحي والرسالة ، وقضية البعث بعد الموت ، فقررت في أولاها ما يوجب النظَر في التوحيد ، وأثبتت لِلّه في سبيل ذلك استحقاق الحمد بحقيقته الشاملة لجميع أنواع صوره ، وأهابت بالعقول أن تلتفت إلى أنه هو الذي خلق الكون بمادته وجوهرة ، فلا أحد غيره يستحق شيئا من الحمد والثناء ، لأن الله هو وحده المصدر ، ولا يصح في عقلٍ أن يتجه بالعبادة والتقديس إلى غيره ، فما أضلَّ أولئك الذين تنكبوا طريق العقل السليم واتخذوا له شركاء هو الّذي خلقهم في جملة ما خلق .
ففي الآية الكريمة إشارة إلى عظمة الخلق ووحدته ، وعظمةُ الخلق تدل على وحدانية الخالق وجلاله : فالسماوات بنجومها وكواكبها ، والأرض وما عليها من حيوان ونبات ، وما في باطنها من معادن جامدة وسائلة ، والبحار وما يسبح فيها من لآلئ وأحياء ، كلها تدل على وحدانية الخالق . وكذلك النور الواحد والظلمات المنوعة ، كظلمة الصخر والبحر والكهف والضباب المتكاثف . . . كل هذا يدل على إبداع الخالق .