قوله تعالى : " ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " أي ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشرات أي بالمطر لأنها تتقدمه . وقد مضى في " الحجر " بيانه{[12529]} . " وليذيقكم من رحمته " يعني الغيث والخصب . " ولتجري الفلك " أي في البحر عند هبوبها . وإنما زاد " بأمره " لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال بحبسها ، وربما عصفت فأغرقتها بأمره . " ولتبتغوا من فضله " يعني الرزق بالتجارة " ولعلكم تشكرون " هذه النعم بالتوحيد والطاعة . وقد مضى هذا كله مبينا{[12530]} .
ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن{[53296]} به تمام ظهور الحكمة ، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة ، بأن قيام السماء والأرض بأمره و{[53297]} أتبع ذلك ما{[53298]} اشتد التحامه به ، وختمه ببغض الكافرين بعد ذكر يوم البعث ، أتبعه ذكر ما حفظ به قيام الوجود ، وهو الرياح ، يجعلها سبباً في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات ، وهي{[53299]} بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير{[53300]} في البحر الموصل{[53301]} لمنافع بعض البلاد إلى بعض ، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض ، فاستعمل{[53302]} المؤمن منهم {[53303]}ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه ، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به{[53304]} تلك النعم ويستكثرها ، فأبطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه ، والرياح أيضاً أشبه شيء بالناس ، منها النافع نفعاً كبيراً{[53305]} ، ومنها الضار ضراً{[53306]} كثيراً ، فقال{[53307]} : { ومن آياته } أي الدلالات الواضحة الدالة على كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي أقام هذا الوجود ، وكما أنه أقامه فهو يقيم وجوداً آخر هو زبدة الأمر ، ومحط الحكمة ، وهو أبدع{[53308]} من هذا الوجود ، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم ، ويتجلى لفصل القضاء بينهم ، فيأخذ بالحق لمظلومهم من ظالمهم ، ثم يصدعهم فيجعل فريقاً منهم{[53309]} في الجنة دار الإعانة والكرامة ، وفريقاً في السعير غار الإهانة والملامة { أن يرسل الرياح } على سبيل التجدد{[53310]} والاستمرار ، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها
" اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً " وقد تقدم من شرحي لها{[53311]} عند
في [ النمل{[53312]} : 63 ] ما فيه كفاية ، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها{[53313]} بالجمع{[53314]} إشارة إلى باهر القدرة ، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع ، وكذا إسكانه ، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة ، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما{[53315]} لا يعلمه إلا أولو البصائر { مبشرات } أي لكم{[53316]} بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد{[53317]} الأكباد ولذة العيش .
ولما كان التقدير : ليهلك بها من يشاء من عباده ، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر ، وما يتبعه من انتشار المفسدات ، واضمحلال المصلحات ، وطواه لأن السياق لذكر النعم ، عطف عليه قوله مثبتاً اللام إيضاحاً للمعطوف عليه : { وليذيقكم } {[53318]}وأشار{[53319]} إلى عظمة نعمه {[53320]}بالتبعيض في{[53321]} قوله : { من رحمته } أي نعمه{[53322]} من المياه العذبة والأشجار الرطبة ، وصحة الأبدان ، وخصب الزمان ، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها ، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح ، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة
العفونة من الهواء{[53323]} والإعانة على تذرية{[53324]} الحبوب وغير ذلك ، وأشار إلى عظمة هذه النعمة{[53325]} و{[53326]}إلى أنها{[53327]} صارت لكثرة الإلف مغفولاً عنها بإعادة اللام فقال : { ولتجري الفلك } أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها .
ولما أسند الجري {[53328]}إلى الفلك{[53329]} نزعه منها بقوله : { بأمره } أي بما يلائم من الرياح اللينة ، وإذا أراد أعصفها فأغرقت ، أو جعلها متعاكسة فحيرت{[53330]} ورددت ، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف السفن لئلا تتلف{[53331]} .
ولما كان كل من{[53332]} مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد{[53333]} نعمة في نفسه ، عطف على { لتجري } قوله ، منبهاً بإعادة اللام {[53334]}إيضاحاً للمعطوف عليه{[53335]} على تعظيم النعمة{[53336]} : { ولتبتغوا } أي تطلبوا طلباً ماضياً بذلك السير ، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله : { من فضله } مما يسخر{[53337]} لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد {[53338]}والجهاد وغيره{[53339]} { ولعلكم } أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من{[53340]} أنكم { تشكرون* } ما أفاض عليكم سبحانه من نعمه ، ودفع عنكم من نقمه{[53341]} .
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 46 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } .
يبين الله بعضا من أدلته على وحدانيته ، وجلال شأنه وعظيم اقتداره . ومن جملة هذه الأدلة والعلامات إرساله الرياح { مُبَشِّرَاتٍ } أي تبشر بنزول الغيث والرحمة { وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } أي ينعم عليكم بالرحمة وهي الخصب والسعة . وهذه رحمة من الله يمنُّ بها الله على العباد فيعمهم الخير والبحبوحة { وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ } أي تجري السفن في البحر بهبوب الرياح الدافعة لها بأمر الله .
على أن الرياح تظل سببا في حركة الوسائط النقلية جميعا سواء في الزمن الماضي ؛ إذ كانت السفائن على ظهر الماء تندفع جارية بفعل الريح الدافعة . وهي في الزمن الراهن تؤثر في كل وسائل النقل البخارية والميكانيكية والكهربية . وذلك بما يتضمنه الهواء من مختلف المركبات والعناصر ، ومن بينها العنصر الأهم وهو الأوكسجين .
فإنه العامل الأساسي في استخراج الطاقة الحرارية وبقائها . وكل ذلك بأمر الله وتقديره وكماله سلطانه .
قوله : { وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } أي تلتمسوا الأرزاق والمعايش بالتجارات وأنتم تجوبون البحار لتصلوا البلاد والأمصار .
قوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم فتفردونه بالعبادة والطاعة والإذعان .