السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَن يُرۡسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَٰتٖ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَلِتَجۡرِيَ ٱلۡفُلۡكُ بِأَمۡرِهِۦ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (46)

ولما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ويذكر لأضداده سبباً لئلا يتوهم به الظلم قال تعالى : { ومن آياته } أي : دلالاته الواضحة { أن يرسل الرياح مبشرات } أي : بالمطر كما قال تعالى { بشراً بين يدي رحمته } ( الأعراف : 57 ) أي : قبل المطر ، وقيل : مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح بالإفراد على إرادة الجنس ، والباقون بالجمع وهي الجنوب والشمال والصبا ؛ لأنها رياح الرحمة ، وأمّا الدبور فريح العذاب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وقوله تعالى { وليذيقكم } أي : بها . { من رحمته } أي : من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها ، معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم ، أو على علة محذوفة دل عليها مبشرات ، أو على يرسل بإضمار فعل معلل دل عليه أي : وليذيقكم أرسلها { ولتجري الفلك } أي : السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها ، وإنما زاد { بأمره } لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها ، وربما عصفت وأغرقتها { ولتبتغوا } أي : تطلبوا { من فضله } من رزقه بالتجارة في البحر { ولعلكم } أي : ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم { تشكرون } على ما أنعم عليكم من نعمه ودفع عنكم من نقمه .

تنبيه : قال تعالى في ظهر الفساد { ليذيقهم بعض الذي عملوا } ( الروم : 41 ) وقال ههنا { وليذيقكم من رحمته } فخاطبهم ههنا تشريفاً ولأنّ رحمته قريب من المحسنين وحينئذ فالمحسن قريب فيخاطب ، والمسيء بعيد فلم يخاطب ، وقال هناك { بعض الذي عملوا } فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال تعالى : { من رحمته } لأنّ الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول : أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول : هذا لك مني ، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي . وأيضاً فلو قال : أرسلت لسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة ، وأما إذا قال : من رحمته كان غاية البشارة ، وأيضاً فلو قال : بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة ، وأما في حق الكفار فإذا قال : بما فعلتم أنبأ عن نقصان عقابهم وهو كذلك وقال هناك { لعلهم يرجعون } وقال هنا : { ولعلكم تشكرون } فالواو إشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم .