الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالُواْ نَفۡقِدُ صُوَاعَ ٱلۡمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ} (72)

فيه سبع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " . البعير هنا الجمل في قول أكثر المفسرين . وقيل : إنه الحمار ، وهي لغة لبعض العرب ، قاله مجاهد واختاره . وقال مجاهد : الزعيم هو المؤذن الذي قال : " أيتها العير " . والزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء والزعيم الرئيس . قال{[1]} :

وإني زعيمٌ إن رجعتُ مُمَلَّكًا *** بِسَيْرٍ تَرَى منه الفُرَانِقَ أزوَرَا

وقالت ليلى الأخيلية ترثي أخاها{[2]} :

ومُخَرَّقٍ عنه القَميصُ تَخَالُه *** يوم اللقاء من الحياءِ سَقِيمَا

حتى إذا رفع اللواءَ رأيتَهُ *** تحت اللواء{[3]} على الخَمِيسِ زعيمَا

الثانية : إن قيل : كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول ، وضمان المجهول لا يصح ؟ قيل له : حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق ، فصح ضمانه ، غير أنه كان{[4]} بدل مال للسارق ، ولا يحل للسارق ذلك ، فلعله كان يصح في شرعهم أو كان هذا جعالة ، وبذل مال لمن كان{[5]} يفتش ويطلب .

الثالثة : قال بعض العلماء : في هذه الآية دليلان : أحدهما : جواز الجُعْل وقد أجيز للضرورة ، فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره ، فإذا قال الرجل : من فعل كذا فله كذا صح . وشأن الجعل أن يكون أحد الطرفين معلوما والآخر مجهولا للضرورة إليه ، بخلاف الإجارة ، فإنه يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين ، وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه ، إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده ، إذا رضي بإسقاط حقه ، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل . ولا يشترط في عقد الجعل حضور المتعاقدين ، كسائر العقود ؛ لقوله : " ولمن جاء به حمل بعير " وبهذا كله قال الشافعي .

الرابعة : متى قال الإنسان ، من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به ، فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من جاء بآبق فله أربعون درهما ) ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد . قال ابن خويز منداد : ولهذا قال أصحابنا : إن كان ممن يفعل بالإنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه من مصالحه لزمه ذلك ، وكان له أجر مثله إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر .

قلت : وخالفنا في هذا كله الشافعي .

الخامسة : الدليل الثاني : جواز الكفالة على الرجل ؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام ، قال علماؤنا : إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل ، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة ، وقد اختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه ، هل يلزمه ضمان المال أم لا ؟ فقال الكوفيون : من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات ، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه . وقال مالك والليث والأوزاعي : إذا تكفل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال ، ويرجع به إلى المطلوب ، فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال : لا أضمن المال فلا شيء عليه من المال ، والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم ، وإنما يطلب بمال ، فإذا ضمنه له ولم يأته به فكأنه فوته عليه ، وعزه منه ، فلذلك لزمه المال . واحتج الطحاوي للكوفيين فقال : أما ضمان المال بموت المكفول به{[6]} فلا معنى له ؛ لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال ، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به .

السادسة : واختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما ؟ فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : يأخذ من شاء حتى يستوفي حقه ، وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال : لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب ؛ لأن التبدية بالذي عليه الحق أولى ، إلا أن يكون معدما فإنه يؤخذ من الحميل ، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة ، وهذا قول حسن . والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء . وقال ابن أبي ليلى : إذا ضمن الرجل عن صاحبه ما لا تحول على الكفيل وبرئ صاحب ، الأصل ، إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء ، واحتج ببراءة الميت من الدين ، بضمان أبي قتادة{[7]} ، وبنحوه قال أبو ثور .

السابعة : الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز{[8]} النيابة فيها ، مما يتعلق بالذمة من الأموال ، وكان ثابتا مستقرا ، فلا تصح الحمالة بالكتابة لأنها ليست بدين ثابت مستقر ؛ لأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة ، وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه ، ويسجن المدعى عليه الحد ، حتى ينظر في أمره .

وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص ، وقالا : إذا قال المقذوف أو المدعي القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام ، واحتج لهم الطحاوي بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبد الله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[2]:في بعض النسخ: "أبي قاسم"
[3]:في بعض النسخ: "المسيي".
[4]:آية 92 سورة الحج
[5]:آية 98 سورة النحل
[6]:قوله: يقال له خنزب. في نهاية ابن الأثير: "قال أبو عمرو: وهو لقب له، والخنزب (بالفتح): قطعة لحم ويروى بالكسر والضم".
[7]:الزيادة عن لسان العرب مادة (حجر).
[8]:هو النابغة الذبياني، كما في لسان العرب (شطن)