الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ} (124)

" ومن أعرض عن ذكري " أي ديني ، وتلاوة كتابي ، والعمل بما فيه . وقيل : عما أنزلت من الدلائل . ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول ؛ لأنه كان منه الذكر . " فإن له معيشة ضنكا " أي عيشا ضيقا ، يقال منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمؤنث والجمع ، قال عنترة :

إن يُلْحقوا أَكْرِرْ وإن يُستلحَمُوا*** أَشْدُدْ وإن يُلْفَوْا بِضَنْكِ أنزلِ

وقال أيضا :

إن المنيةَ لو تُمثَّل مُثِّلَتْ*** مثلي إذا نَزَلُوا بضنكِ المنزلِ

وقرئ " ضَنْكَى " على وزن فعلى : ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته ، فصاحبه ينفق مما رزقه الله - عز وجل - بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافغا{[11201]} ، كما قال الله تعالى : " فلنحيينه حياة طيبة " {[11202]} [ النحل 97 ] . والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا ، مسلط عليه الشح ، الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة ، كما قال بعضهم : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه ، وكان في عيشة ضنك . وقال عكرمة : " ضنكا " كسبا حراما . الحسن : طعام الضريع والزقوم . وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر ، قاله أبو سعيد الخدري وعبدالله بن مسعود ، ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة " ، قال أبو هريرة : يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهو المعيشة الضنك . " ونحشره يوم القيامة أعمى " قيل : أعمى في حال وبصيرا في حال ، وقد تقدم في آخر " سبحان " {[11203]} [ الإسراء 1 ] وقيل : أعمى عن الحجة ، قاله مجاهد . وقيل : أعمى عن جهات الخير ، لا يهتدي لشيء منها . وقيل : عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه ، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه .


[11201]:عيش أرفغ ورافغ ورفيغ.
[11202]:راجع جـ 10 ص 174 وص 333.
[11203]:في ك: دلائلنا.