الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَشَجَرَةٗ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَيۡنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغٖ لِّلۡأٓكِلِينَ} (20)

فيه ست مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " وشجرة " شجرة عطف على جنات . وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل ، بمعنى وثم شجرة ، ويريد بها شجرة الزيتون . وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد ، وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار . " تخرج " في موضع الصفة . " من طور سيناء " أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك الله فيه . وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، قاله ابن عباس وغيره ، وقد تقدم في البقرة والأعراف{[11643]} . والطور الجبل في كلام العرب . وقيل : هو مما عرب من كلام العجم . وقال ابن زيد : هو جبل بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة{[11644]} . واختلف في سيناء ، فقال قتادة : معناه الحسن ، ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت . وقال مجاهد : معناه مبارك . وقال معمر عن فرقة : معناه شجر ، ويلزمهم أن ينونوا الطور . وقال الجمهور : هو اسم الجبل ، كما تقول جبل أحد . وعن مجاهد أيضا : سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده . وقال مقاتل : كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء ، أي حسن . وقرأ الكوفيون بفتح السين على وزن فعلاء ، وفعلاء في كلام العرب كثير ، يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة ؛ لأن في آخرها ألف التأنيث ، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه ، وليس في الكلام فعلاء ، ولكن من قرأ سيناء بكسر السين جعله فِعلالا ، فالهمزة فيه كهمزة حِرباء ، ولم يصرف في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة ، وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي .

الثانية-قوله تعالى : " تنبت بالدهن " قرأ الجمهور " تنبت " بفتح التاء وضم الباء ، والتقدير : تنبت ومعها الدهن ، كما تقول : خرج زيد بسلاحه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بقسم التاء وكسر الباء . واختلف في التقدير على هذه القراءة ، فقال أبو علي الفارسي : التقدير تنبت جناها ومعه الدهن ، فالمفعول محذوف . وقيل : الباء زائدة ، مثل " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " [ البقرة : 195 ] وهذا مذهب أبي عبيدة . وقال الشاعر :

نضربُ بالسيف ونرجُو بالفرج

وقال آخر :

هن الحرائرُ لا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ{[11645]} *** سُودُ المَحَاجِرِ لاَ يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ

ونحو هذا قاله أبو علي أيضا ، وقد تقدم . وقيل : نبت وأنبت بمعنى ، فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور ، وهو مذهب الفراء وأبي إسحاق ، ومنه قول زهير :

حتى إذا أنبتَ البقل

والأصمعي ينكر أنبت ، ومنه قصيدة زهير التي فيها :

رأيتُ ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطيناً بها حتى إذا أنبت البقل

أي نبت . وقرأ الزهري والحسن والأعرج " تنبت بالدهن " برفع التاء ونصب الباء . قال ابن جني والزجاج : هي باء الحال ، أي تنبت ومعها دهنها . وفي قراءة ابن مسعود : " تخرج بالدهن " وهي باء الحال . ابن درستويه : الدهن الماء اللين ، تنبت من الإنبات . وقرأ زر بن حبيش " تنبت - بضم التاء وكسر الباء - الدهن " بحذف الباء ونصبه . وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب " بالدهان " . والمراد من الآية تعديه نعمة الزيت على الإنسان ، وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها . ويدخل في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار .

الثالثة : قوله تعالى : " وصبغ للآكلين " قراءة الجمهور . وقرأت فرقة " وأصباغ " بالجمع . وقرأ عامر بن عبد قيس " ومتاعا " ، ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل ، يقال : صبغ وصباغ ؛ مثل دبغ ودباغ ، ولبس ولباس . وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ ، حكاه الهروي وغيره . وأصل الصبغ ما يلون به الثوب ، وشبه الإدام به ؛ لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه . وقال مقاتل : الأدم الزيتون ، والدهن الزيت . وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا ، فالصبغ على هذا الزيتون .

الرابعة : لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والرب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام . وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخل فقال : ( نعم الإدام الخل ) رواه تسعة من الصحابة ، سبعة رجال وامرأتان . وممن رواه في الصحيح جابر وعائشة وخارجة وعمر وابنه عبيد الله وابن عباس وأبو هريرة وسمرة بن جندب وأنس وأم هانئ .

الخامسة : واختلف فيما كان جامدا كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من الجوامد ، فالجمهور أن ذلك كله إدام ، فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لحما أو جبنا حنث . وقال أبو حنيفة : لا يحنث ، وخالفه صاحباه . وقد روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة . والبقل ليس بإدام في قولهم جميعا . وعن الشافعي في التمر وجهان ، والمشهور أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه : وقيل يحنث ، والصحيح أن هذا كله إدام . وقد روى أبو داود عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة فقال : ( هذا إدام هذه ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم ) . ذكره أبو عمر . وترجم البخاري ( باب الإدام ) وساق حديث عائشة ، ولأن الإدام مأخوذ من المؤادمة وهي الموافقة ، وهذه الأشياء توافق الخبز فكان إداما . وفي الحديث عنه عليه السلام : ( ائتدموا ولو بالماء ) . ولأبي حنيفة أن حقيقة الإدام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل ، كالخل والزيت ونحوهما ، وأما اللحم والبيض وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه{[11646]} كالبطيخ والتمر والعنب . والحاصل : أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إداما ، وكل ما لا يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إداما ، والله أعلم .

السادسة : روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ) . هذا حديث لا يعرف إلا من حديث عبد الرزاق ، وكان يضطرب فيه ، فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما رواه على الشك فقال : أحسبه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما قال : عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال مقاتل : خص الطور بالزيتون ؛ لأن أول الزيتون نبت منها . وقيل : إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان . والله أعلم .


[11643]:راجع ج 3 ص 264، ج 7 ص 287.
[11644]:أيلة: تعرف اليوم باسم " العقبة".
[11645]:كذا في الأصول ولسان العرب مادة "سور"بالخاء المعجمة. وأورده صاحب خزانة الأدب بالحاء المهملة، قال: والأحمرة جمع حمار (بالحاء المهملة) جمع قلة، وخص الحمير؛ لأنها رذال المال وشره...وقد صحف الدماميني هذه الكلمة بالخاء المعجمة، وقال: والأخمرة جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة رأسها" . (راجع الشاهد الخامس بعد السبعمائة من الخزانة).
[11646]:كذا في الأصول من المجاورة.