قوله : «وشَجَرَةً » عطف على «جَنَّات » ، أي : ومما أنشأنا لكم شجرة{[32447]} ، وقرئت مرفوعة على الابتداء{[32448]} . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِينَاء »{[32449]} بكسر السين ، والباقون بفتحها{[32450]} والأعمش كذلك إلا أنه قصرها{[32451]} . فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام ( فِعْلاَء ) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق{[32452]} بِسرْدَاح{[32453]} وقرطاس{[32454]} ، فهي كعِلْبَاء{[32455]} ، فتكون الهمزة منقلبة{[32456]} عن ياء أو واو ، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفاً{[32457]} بعد ألف زائدة قُلب همزة كَرِدَاء وكِسَاء{[32458]} قال الفارسي : وهي الياء التي ظهرت في درْحَاية ، والدرحاية{[32459]} الرجل القصير السمين{[32460]} . وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلاً مثل : حِمْلاَق{[32461]} ، إذ ليس في الكلام مثل{[32462]} : سيناء{[32463]} . يعني : مادة ( سين ونون وهمزة ) . وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلاً من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم ، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها اسم بقعة بعينها ، وقيل : للتعريف والعجمة{[32464]} . قال بعضهم : والصحيح أن{[32465]} سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت{[32466]} فيه لغاتها ، فقالوا : ( سَيْنَاء ) كحمراء وصفراء ، و( سِينَاء ) كعِلْبَاء وحِرْبَاء وسينين كخِنْذِيدِ ، وزحْلِيل ، والخِنْذِيد{[32467]} الفحل والخصي أيضاً ، فهو من الأضداد ، وهو أيضاً رأس الجبل المرتفع{[32468]} . والزحْلِيل{[32469]} : المتنحي من زحل إذ{[32470]} انتحى{[32471]} وقال الزمخشري : «طُورِ سَيْنَاء » وطُورِ سِينِينٍ{[32472]} لا يخلو إمّا أَنْ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وكبعلبك ، فيمن أضاف ، فَمَن كَسَر{[32473]} سِين «سيْنَاء » فقد منع الصرف للتعريف والعُجمة أو التأنيث ، لأنها بقعة ، وفِعْلاء لا يكون ألفه للتأنيث كَعِلْبَاء وحِرْبَاء {[32474]} .
قال شهاب الدين : وكون ألف{[32475]} ( فِعْلاء ) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة ، وأَمَّا الكوفيون فعندهم أَنّ ألفها يكون للتأنيث ، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحَمْراء وبابها . وكسر السين من ( سَيْنَاء ) لغة كنانة{[32476]} وأمَّا القراءة الثانية : فألفها للتأنيث ، فمنع الصرف واضح . قال أبو البقاء : وهمزته للتأنيث ، إذ ليس في الكلام ( فَعْلاَل ) بالفتح ، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خَزْعَالٌ{[32477]} لا يثبت ، وإن ثبت فهو شاذ لا{[32478]} يحمل عليه{[32479]} . وقد وهم بعضهم فجعل ( سَيْنَاء ) مشتقة من ( السنا ) وهو الضوْء ، ولا يصح ذلك لوجهين :
أحدهما : أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم .
الثاني : أَنّا وإنْ سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين ( السنَا ) نون وعين ( سَيْناء ) ياء{[32480]} . كذا قال بعضهم . وفيه نظر ؛ إذْ لقائل أن يقول : لا نُسلّم أن عين ( سيناء ) ( ياء ) بل عينها ( نون ) ، وياؤها مزيدة ، وهمزتها منقلبة عن واو ، كما قلبت ( السنا ) ، ووزنها حينئذ ( فِيعَال ) و ( فِيعَال ) موجود في كلامهم ، كِميلاَع{[32481]} وقيتَال{[32482]} مصدر قاتل{[32483]} .
قوله : «تَنْبُتُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تُنْبِت » بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء{[32484]} . فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن أنبت بمعنى ( نَبَت ) فهو مما اتفق فيه ( فَعَل ) و ( أَفْعَل ){[32485]} وأنشدوا لزهير :
رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم *** قَطِيناً بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ{[32486]}
وأنكره الأصمعي ، أي : نَبَت{[32487]} .
الثاني : أنّ الهمزة للتعدية ، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي : تنبت ثمرها ، أو جناها ، و «بالدُّهْنِ » حال ، أي : ملتبساً بالدهن{[32488]} .
الثالث : أن الباء مزيدة في المفعول به{[32489]} كهي في قوله تعالى{[32490]} : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ }{[32491]} [ البقرة : 195 ] ، وقول الآخر :
سُودُ المَحَاجِر لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ{[32492]} *** . . .
نَضْرِبُ بالسَّيْفِ ونَرْجُو بِالفَرَج{[32493]} *** . . .
وأمّا القراءة الأخرى فواضحة ، والباء للحال من الفاعل ، أي ملتبسة بالدهْنِ يعني وفيها الدهن{[32494]} ، كما يقال : ركب الأمير بجنده{[32495]} . وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز{[32496]} «تنبت » مبنيًّا للمفعول{[32497]} من أنبتها الله و «بالدُّهْنِ » حال من المفعول القائم{[32498]} مقام الفاعل أي : ملتبسة بالدُّهن{[32499]} . وقرأ زِرّ بن حبيش «تُنْبِتُ الدُّهْنَ »{[32500]} من أنبت ، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها . والأشهب{[32501]} وسليمان بن عبد الملك{[32502]} «بالدِّهَان »{[32503]} وهو جمع دُهْن كرُمْح ورماح وأمّا قراءة أُبّي : «تُتْمِر »{[32504]} ، وعبد الله : «تُخْرِج »{[32505]} فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد ، والدّهن : عصارة ما فيه دسم ، والدَّهن - بالفتح - المسح بالدُّهن{[32506]} مصدر دَهَن يَدْهُنُ ، والمُدَاهَنَة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره {[32507]} .
اختلفوا في «طُورِ سَيْنَاء »{[32508]} وفي «طُورِ سِينِينَ »{[32509]} . فقال مجاهد{[32510]} : معناه البركة أي : من جبل مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن . وقال الضحاك : معناه بالنبطية : الحسن .
وقال عكرمة : بالحبشية . وقال الكلبي : معناه : المشجر أي : جبل وشجر{[32511]} . وقيل : هو{[32512]} بالسريانية : الملتف بالأشجار . وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة ، فهو سَيْناء{[32513]} ، وسِينِين بلغة النبط . وقال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة{[32514]} .
وقال مجاهد{[32515]} : سَيْناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده{[32516]} . والمراد بالشجرة التي تُنْبَتُ بالدُّهْنِ أي : تثمر الدهن وهو الزيتون . قال المفسرون : وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل ، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ، ولأن معظمها{[32517]} هناك{[32518]} . قوله : «وَصِبْغٍ » العامة على الجر عطفاً على الدُّهنِ {[32519]} .
والأعمش : «وَصِبْغاً » بالنصب{[32520]} نسقاً على موضع «بالدُّهنِ »{[32521]} ، كقراءة «وأَرْجُلَكُمْ »{[32522]} في أحد محتملاته{[32523]} . وعامر بن عبد الله{[32524]} : «وصِباغ » بالألف{[32525]} ، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ{[32526]} «بالدِّهَان »{[32527]} . والصِبْغ والصِبَاغ كالدِبْغ والدِبَاغ ، وهو اسم ما يفعل به . قال الزمخشري : هو{[32528]} ما يصطبغ به{[32529]} أي : ما يصبغ به الخبز .
و «للآكِلِينَ » صفة ، والمعنى : إدام للآكلين . فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة ، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها ، وهي طرية ومدخرة ، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ، ويعظم وجوه الانتفاع به{[32530]} .