الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَشَجَرَةٗ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَيۡنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغٖ لِّلۡأٓكِلِينَ} (20)

قوله : { وَشَجَرَةً } : عطفٌ على " جناتٍ " . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " سِيناء " بكسر السين . والباقون بفتحها . والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها . فأمَّا القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر الأول ، وهمزتُه للتأنيث ، بل للإِلحاقِ ك " سِرْداح " و " قِرْطاس " فهي كِعلْباء فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما ، فلمَّا وقع حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء ، قال الفارسي : " وهي الياءُ التي ظهرَتْ في " دِرْحايَة " . والدِّرْحاية : الرجلُ القصيرُ السمينُ .

وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال : " والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل " حِمْلاق " وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [ حِمْراء والياءُ أصلٌ إذ ليس في الكلام " سنأ " ] يعني : مادة سين ونون وهمزة . وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل . على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما تقدَّم ، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث ؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها ، وقيل : للتعريف والعُجْمة ، قال بعضهم : والصحيحُ أن " سِيْناء " اسمٌ أعجمي نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا : سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء ، وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل ، والخِنْذِيْذ : الفحلُ والخَصِيُّ أيضاً ، فهو مِن الأضداد ، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ ، والزِّحْلِيلُ : المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تَنحَّى .

وقال الزمخشري : " طُوْرُ سيناء وطور سينين : لا يخلوا : إمَّا أن يُضافَ فيه الطورُ إلى بقعةٍ اسمُها سيناء ، وسينون ، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك ، فيمَنْ أضاف . فَمَنْ كَسَرَ سينَ " سيناء " فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ ، أو التأنيثِ ، لأنها بقعة وفِعْلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء . قلت : وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست للتأنيث هو قولُ أهل البصرة ، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ ، فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها . وكسرُ السين من " سِيْناء " لغةُ كِنانة .

وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث ، فَمَنْع الصرف واضحٌ . قال أبو البقاء : " وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح . وما حكى الفراء مِنْ قولهم : ناقةٌ فيها خَزْعال " لا يَثْبُتُ ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه " .

وقد وَهِم بعضُهم فجعل " سيناء " مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ ، ولا يَصِحُّ ذلك لوجهين أحدُهما : أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ . نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم ، الثاني : أنَّا وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ ، لكنْ المادتان مختلفتان ، فإنَّ عَيْنَ " السنا " نونٌ وعينَ " سيناء " ياء .

كذا قال بعضُهم . وفيه نظرٌ ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّم أن عينَ " سيناء " ياءٌ ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت السَّناء ، ووزنها حينئذٍ فِيْعال ، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال مصدرُ قاتلَ .

قوله " تنبُتُ " قرأ ابن كثير وأبو عمرو ، " تُنْبِتُ " بضمِّ التاءِ وكسرِ الباءِ . والباقون بفتح التاء وضم الباء . فأمَّا الأولى ففيها ثلاثةٌ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ " أنبت " بمعنى نَبَتَ فهو مما اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل وأنشدوا لزهير :

رأيتُ ذوي الحاجات عند بيوتهِم *** قَطِيْناً لها حتى إذا أَنْبَتَ البقلُ

أي : نبت ، وأنكره الأصمعي ، الثاني : أنَّ الهمزةَ للتعديةِ ، والمفعولَ محذوفٌ لفهم المعنى أي : تُنْبِتُ ثمرَها أو جَناها . و " بالدهن " أي : ملتبساً بالدهن . الثالث : أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كهي في

{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ }

[ البقرة : 195 ] وقولِ الشاعر :

3410 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سُوْدُ المَحاجرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ

وقول الآخر :

نَضْربُ بالسَّيْفِ ونرْجُو بالفَرَجْ ***

وأما القراءةُ الأخرى فواضحةٌ ، والباءُ للحال من الفاعل أي : ملتسبةً بالدُّهْن ، يعني : وفيها الدهن .

وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز " تُنْبِتُ " مبنياً للمفعول ، مِنْ أنبتها الله . و " بالدهن " حالٌ من القائمِ مقامَ الفاعلِ أي : ملتسبةً بالدهن .

وقرأ زر بن حبيش " تُنْبِتُ الدُّهْنَ " مِنْ أَنْبَتَ ، وسقوطُ الباء هنا يَدُلُّ على زيادتها في قراءة مَنْ أثبتها . والأشهب وسليمان بن عبد الملك " بالدِّهان " وهو جمع دُهْن كرُمْح ورِماح . وأمَّا قراءة أُبَي " تُثْمر " ، وعبد الله " تَخْرج " فتفسيرٌ لا قراءةٌ لمخالفة السواد .

والدُّهْنُ : عُصارة ما فيه دَسَمٌ . والدَّهْن بالفتح المَسْح بالدُّهن مصدرٌ دَهَن يَدْهُنُ ، والمُداهَنَةُ مِنْ ذلك ؛ كأنه يَمْسَح على صاحبه ليقِرَّ خاطرُه .

قوله : { وَصِبْغٍ } العامَّةُ على الجرِّ نَسَقاً على " بالدُّهْن " . والأعمش " وصبغاً " بالنصبِ نَسَقاً على موضع " بالدُّهْن " كقراءةِ " وأَرْجلَكم " في أحدِ محتملاته ، وعامر بن عبد الله " وصِباغ " بالألف ، و كانت هذه القراءةُ مناسبةً لقراءةِ مَنْ قرأ " بالدِّهان " . والصَبْغ والصِّباغ كالدَّبْغ والدِّباغ وهو اسمُ ما يُفْعل به . وللآكلين " صفةٌ .