الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

فيه إحدى عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : " زين للناس " زين من التزيين واختلف الناس من المزين ، فقالت فرقة : الله زين ذلك ، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ذكره البخاري . وفي التنزيل : " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " {[2901]} [ الكهف : 7 ] ؛ ولما قال عمر : الآن يا رب حين زينتها لنا ! نزلت : " قل أأنبئكم بخير من ذلكم " [ آل عمران : 15 ] وقالت فرقة : المزين هو الشيطان ، وهو ظاهر قول الحسن ، فإنه قال : من زينها ؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها . فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء . وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها . والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم . وقرأ الجمهور " زُيِّن " على بناء الفعل للمفعول ، ورفع " حُبُّ " . وقرأ الضحاك ومجاهد " زَيَّن " على بناء الفعل للفاعل ، ونصب " حُبَّ " وحركت الهاء من " الشهوات " فرقا بين الاسم والنعت . والشهوات جمع شهوة وهي معروفة . ورجل شهوان{[2902]} للشيء ، وشيء شهي أي مشتهى واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة . وفي صحيح مسلم : ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها . وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها . وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( طريق الجنة حزن{[2903]} بربوة وطريق النار سهل بسهوة . . . ) ، وهو معنى قوله ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) . أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الروابي ، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة ، وهو معنى قوله ( سهل بسهوة ) وهو بالسين المهملة .

الثانية : قوله تعالى : " من النساء " بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن ؛ لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء ) أخرجه البخاري ومسلم . ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء . ويقال : في النساء فتنتان ، وفي الأولاد فتنة واحدة . فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم ؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات . والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام . وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم . وروى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتاب ) . حذرهم رسول الله{[2904]} صلى الله عليه وسلم ؛ لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال ، وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر ؛ لأنهن قد يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة والبلاء ، ولأنهن قد خلقن من الرجل ، فهمتها في الرجل والرجل خلق فيه الشهوة وجعلت سكنا له ، فغير مأمون كل واحد منهما على صاحبه . وفي تعلمهن الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشد . وفي كتاب الشهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أعْرُوا النساء يلزمن الحجال ) . فعلى الإنسان إذا لم يصبر في هذه الأزمان أن يبحث عن ذات الدين ليسلم له الدين ، قال صلى الله عليه وسلم : ( عليك بذات الدين تربت{[2905]} يداك ) أخرجه مسلم عن أبي هريرة . وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة سوداء خَرْمَاء{[2906]} ذات دين أفضل ) .

الثالثة : قوله تعالى : " والبنين " عطف على ما قبله . وواحد من البنين ابن . قال الله تعالى مخبرا عن نوح : ( إن ابني من أهلي ){[2907]} . وتقول في التصغير " بني " كما قال لقمان . وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشعث بن قيس : ( هل لك من ابنة حمزة من ولد ) ؟ قال : نعم ، لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني جبلة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لئن قلت بذلك إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين وإنهم مع ذلك لمَجْبَنَة{[2908]} مبخلة محزنة ) .

الرابعة : قوله تعالى : " والقناطير " القناطير جمع قنطار ، كما قال تعالى : " وآتيتم إحداهن قنطارا " {[2909]} [ النساء : 20 ] وهو العقدة الكبيرة من المال ، وقيل : هو اسم للمعيار الذي يوزن به ، كما هو الرطل والربع . ويقال لما بلغ ذلك الوزن : هذا قنطار ، أي يعدل القنطار . والعرب تقول : قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار . وقال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ، تقول العرب : قنطرت الشيء إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها . قال طرفة :

كقنطرةِ الرومي أقسم ربها *** لتُكْتَنَفَنْ حتى تُشَادَ بِقَرْمَدِ{[2910]}

والقنطرة المعقودة ، فكأن القنطار عقد مال . واختلف العلماء في تحرير حده كم هو على أقوال عديدة ، فروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية ) ، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبدالله بن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء . قال ابن عطية : وهو أصح الأقوال ، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية . وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ، أسنده البستي في مسنده الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القنطار اثنا عشر ألف أوقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض " . وقال بهذا القول أبو هريرة أيضا . وفي مسند أبي محمد الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : " من قرأ في ليلة عشر آيات كتب من الذاكرين ، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر " قيل : وما القنطار ؟ قال : " ملء مسك ثور ذهبا " . موقوف ، وقال به أبو نضرة العبدي . وذكر ابن سيده أنه هكذا بالسريانية . وقال النقاش عن ابن الكلبي أنه هكذا بلغة الروم . وقال ابن عباس والضحاك والحسن : ألف ومائتا مثقال من الفضة ، ورفعه الحسن . وعن ابن عباس : اثنا عشر ألف درهم من الفضة ، ومن الذهب ألف دينار دية الرجل المسلم ، وروى عن الحسن والضحاك . وقال سعيد بن المسيب : ثمانون ألفا . قتادة : مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة . وقال أبو حمزة الثمالي{[2911]} : القنطار بإفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة . السدي : أربعة آلاف مثقال . مجاهد : سبعون ألف مثقال ؛ وروي عن ابن عمر . وحكى مكي قولا : أن القنطار أربعون أوقية من ذهب أو فضة ، وقاله ابن سيده في المحكم ، وقال : القنطار بلغة بَرْبَرْ ألف مثقال . وقال الربيع بن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وهذا هو المعروف عند العرب ، ومنه قوله : " وآتيتم إحداهن قنطارا " أي مالا كثيرا . ومنه الحديث : ( إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه ) أي صار له قنطار من المال . وعن الحكم هو ما بين السماء والأرض . واختلفوا في معنى " المقنطرة " فقال الطبري وغيره : معناه المضعفة ، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسع . وروى عن الفراء أنه قال : القناطير جمع القنطار ، والمقنطرة جمع الجمع ، فيكون تسع قناطير . السدي : المقنطرة المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم . مكي : المقنطرة المكملة ، وحكاه الهروي ، كما يقال : بِدَرٌ مُبَدَّرَةٌ ، وآلاف مؤلفة . وقال بعضهم . ولهذا سمي البناء القنطرة لتكاثف البناء بعضه على بعض . ابن كيسان والفراء : لا تكون المقنطرة أقل من تسع قناطير . وقيل : المقنطرة إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا . وفي صحيح البستي عن عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطِرين ) .

الخامسة : قوله تعالى : " من الذهب والفضة " الذهب مؤنثة{[2912]} ، يقال : هي الذهب الحسنة جمعها ذهاب{[2913]} وذُهوب . ويجوز أن يكون جمع ذَهْبَة ، ويجمع على الأذهاب . وذهب فلان مذهبا حسنا . والذهب : مكيال لأهل اليمن . ورجل ذَهِب إذا رأى معدن الذهب فدهش . والفضة معروفة ، وجمعها فضض . فالذهب مأخوذة من الذهاب ، والفضة مأخوذة من انفض الشيء تفرق ، ومنه فَضَضْت القوم فانفضوا ، أي فرقتهم فتفرقوا . وهذا الاشتقاق يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود . ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم :

النار آخر دينار نطقتَ به *** والهَمُّ آخر هذا الدرهم الجاري

والمرء بينهما إن كان ذا ورع *** مُعَذَّبَ القلب بين الهم والنار

السادسة : قوله تعالى : " والخيل " الخيل مؤنثة . قال ابن كيسان : حدثت عن أبي عبيدة أنه قال : واحد الخيل خائل ، مثل طائر وطير ، وضائن وضين ، وسمي الفرس بذلك ؛ لأنه يختال في مشيه . وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، واحد فرس ، كالقوم والرهط والنساء والإبل ونحوها . وفي الخبر من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق الفرس من الريح ولذلك جعلها تطير بلا جناح ) . وهب بن منبه : خلقها من ريح الجنوب . قال وهب : فليس تسبيحة ولا تكبيرة ولا تهليلة يكبرها صاحبها إلا وهو يسمعها فيجيبه بمثلها . وسيأتي لذكر الخيل ووصفها في سورة " الأنفال " {[2914]} ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى . وفي الخبر : ( إن الله عرض على آدم جميع الدواب ، فقيل له : اختر منها واحدا فاختار الفرس ، فقيل له : اخترت عزك ) ، فصار اسمه الخير من هذا الوجه . وسميت خيلا ؛ لأنها موسومة بالعز فمن ركبه اعتز بنحلة الله له ويختال به على أعداء الله تعالى . وسمي فرسا ؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وُثْبَانا ، ويقطعها كالالتهام بيديه على شيء خبطا وتناولا ، وسمي عربيا ؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي ، فصار له نحلة من الله تعالى فسمي عربيا . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الشيطان دارا فيها فرس عتيق ) . وإنما سمي عتيقا ؛ لأنه قد تخلص من الهجانة{[2915]} . وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( خير الخيل الأدهم الأقرح{[2916]} الأرثم ثم الأقرح{[2917]} المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشِّيَةِ ) . أخرجه الترمذي عن أبي قتادة . وفي مسند الدارمي عنه أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أريد أن أشتري فرسا [ فأيها أشتري ]{[2918]} ؟ قال : ( اشتر أدهم أرثم محجلا{[2919]} طلق اليمين أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم ) . وروى النسائي عن أنس قال : لم يكن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل . وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر . . . ) الحديث بطوله ، شهرته أغنت عن ذكره . وسيأتي ذكر أحكام الخيل في " الأنفال " {[2920]} و " النحل " بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى .

السابعة : قوله تعالى : " المسومة " يعني الراعية في المروج والمسارح ، قاله سعيد بن جبير . يقال : سامت الدابة والشاة إذا سرحت تسوم سوما فهي سائمة . وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة . وسومتها تسويما فهي مسومة . وفي سنن ابن ماجه عن علي قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السوم{[2921]} قبل طلوع الشمس ، وعن ذبح ذوات الدر . السوم هنا في معنى الرعي . وقال الله عز وجل : " فيه تسيمون " {[2922]} [ النحل :10 ] قال الأخطل :

مثل ابن بَزْعَةَ{[2923]} أو كآخر مثله *** أولى لك{[2924]} ابن مسِيمَةِ الأجمال

أراد ابن راعية الإبل . والسوام : كل بهيمة ترعى ، وقيل : المعدة للجهاد . قاله ابن زيد . مجاهد : المسومة المطهمة الحسان . وقال عكرمة : سومها الحسن ، واختاره النحاس ، من قولهم : رجل وسيم . وروي عن ابن عباس أنه قال : المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها ، من السيما وهي العلامة . وهذا مذهب الكسائي وأبي عبيدة .

قلت : كل ما ذكر يحتمله اللفظ ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها . قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى . وحكى ابن فارس اللغوي في مجمله : المسومة المرسلة وعليها ركبانها . وقال المؤرج{[2925]} : المسومة المكوية ، المبرد : المعروفة في البلدان . ابن كيسان : البلق . وكلها متقارب من السيما . قال النابغة :

وضُمْرٍ كالقداح مسومات *** عليها مَعْشَرٌ أشباه جِنِّ

الثامنة : قوله تعالى : " والأنعام " قال ابن كيسان : إذا قلت نعم لم تكن إلا للإبل ، فإذا قلت أنعام وقعت للإبل وكل ما يرعى . قال الفراء : هو مذكر ولا يؤنث ، يقولون : هذا نعم وارد ، ويجمع أنعاما . قال الهروي : والنعم يذكر ويؤنث ، والأنعام المواشي من الإبل والبقر والغنم ، إذا قيل : النعم فهو الإبل خاصة . وقال حسان :

وكانت لا يزال بها أنيس *** خلال مُرُوجِهَا نَعَمٌ وشَاءُ

وفي سنن ابن ماجه عن عروة البارقي يرفعه قال : ( الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة ) . وفيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الشاة من دواب الجنة ) . وفيه عن أبي هريرة قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأغنياء باتخاذ الغنم ، والفقراء باتخاذ الدجاج . وقال : عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى . وفيه عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ( اتخذي غنما فإن فيها بركة ) . أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ ، إسناد صحيح .

التاسعة : قوله تعالى : " والحرث " الحرث هنا اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به ، تقول : حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة ، فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة . وفي الحديث : ( احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ) . يقال حرثت واحترثت . وفي حديث عبدالله ( احرثوا هذا القرآن ) أي فتشوه . قال ابن الأعرابي : الحرث التفتيش ، وفي الحديث : ( أصدق الأسماء الحارث ) لأن الحارث هو الكاسب ، واحتراث المال كسبه ، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس ، والجمع أحرثة ، وأحرث الرجل ناقته أهزلها . وفي حديث معاوية : ما فعلت نواضحكم{[2926]} ؟ قالوا : حرثناها يوم بدر . قال أبو عبيد : يعنون هزلناها ، يقال : حرثت الدابة وأحرثتها ، لغتان . وفي صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سكة{[2927]} وشيئا من آلة الحرث فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل ) . قيل : إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين . وقال المهلب : معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم ، الحض على معالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات ؛ وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله ؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها ، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود{[2928]} إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة . ألا ترى أن عمر قال : تمعددوا{[2929]} واخشوشنوا واقطعوا{[2930]} الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل . فأمرهم بملازمة الخيل ، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأمل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ) . قال العلماء : ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال ، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس ؛ أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار ، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك ، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي ، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق{[2931]} . فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول ، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع .

العاشرة : قوله تعالى : " ذلك متاع الحياة الدنيا " أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى . وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة . روى ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة ) . وفي الحديث : ( ازهد في الدنيا يحبك الله ) أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري . قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجِلْفُ{[2932]} الخبز والماء ) أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب . وسئل سهل بن عبد الله : بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات ؟ قال : بتشاغله بما أمر به .

الحادية عشرة : قوله تعالى : " والله عنده حسن المآب " ابتداء وخبر . والمآب المرجع ، آب يؤوب إيابا إذا رجع ، قال يؤوب إيابا إذا رجع ، قال امرؤ القيس :

وقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى *** رضيت من الغنيمةِ بالإياب

وقال آخر :

وكل ذي غيبة يؤوب *** وغائب الموت لا يؤوب

وأصل مآب مأوب ، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف ، مثل : مقال . ومعنى الآية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة .


[2901]:- راجع جـ10 ص 353.
[2902]:- هذه عبارة الصحاح الذي يعتمد عليه المؤلف كثيرا. وفي الأصول: "الشهوان للشيء".
[2903]:- الحزن (بفتح فسكون): المكان الغليظ الخشن. والربوة (بالضم والفتح): ما ارتفع من الأرض والسهوة: الأرض اللينة التربة.
[2904]:- الزيادة في د.
[2905]:- ترب الرجل: افتقر، أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، وإنما يريدون الحث والتحريض.
[2906]:- خرماء: مقطوعة بعض الأنف ومثقوبة الأذن.
[2907]:- راجع جـ9 ص 45.
[2908]:- أي أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت فيصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثارا لهم بالمال، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه.
[2909]:- راجع جـ5 ص 99.
[2910]:- القرمد: الآجر والحجارة.
[2911]:- الثمالي (بضم المثلثة وتخفيف الميم ولام): نسبة إلى ثمالة بطن من الأزد.
[2912]:- هذا رأي المؤلف، وقد ذكره شارح القاموس (في مادة ذهب). والمشهور أن الذهب يذكر ويؤنث كما في معجمات اللغة.
[2913]:- في الأصول: والذي في معجمات اللغة أن الذهب يجمع على أذهاب وذهوب وذهبان (بكسر أوله) كبرق وبرقان وذهبان (بضم أوله) كحمل وحملان. فلعل ما في الأصول محرّف عن "ذهبان".
[2914]:- راجع جـ8 ص 35.
[2915]:- الهجين الذي ولدته برذونة من حصان عربي.
[2916]:- الأقرح: ما في جبهته قرحة، وهي بياض يسير في وجه الفرس دون الغرّة. والأرثم: أبيض الأنف والشفة العليا. والمحجل: أن تكون قوائمه الأربع بيضا يبلغ منها ثلث الوظيف (مستدق الذراع والساق أو ما فوق الرسغ إلى الساق) أو نصفه أو ثلثيه بعد أن يتجاوز الأرساغ ولا يبلغ الركبتين والعرقوبين. وطلق اليمين: لا تحجيل فيها. والكميت: ما لونه بين السواد والحمرة. والشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره.
[2917]:- زيادة عن سنن الترمذي.
[2918]:- زيادة عن مسند الدارمي.
[2919]:- في مسند الدارمي والأصول: "محجل".
[2920]:- راجع جـ 8 ص 36 وجـ 10 ص 73.
[2921]:- في حاشية السندي على سنن ابن ماجه واللسان (مادة سوم) عند الكلام عن هذا الحديث: "السوم: أن يساوم بسلعته، ونهى عن ذلك في ذلك الوقت؛ لأنه وقت يذكر الله فيه فلا يشتغل بغيره. ويحتمل أن المراد بالسوم الرعي؛ لأنها إذا رعت الرعي قبل شروق الشمس وهو عليه ند أصابها منه داء قتلها، وذلك معروف عند أهل المال من العرب".
[2922]:-راجع جـ10 ص 82.
[2923]:- كذا في ديوانه. ورواية الأغاني (جـ8 ص 319 طبع دار الكتب المصرية): "كابن البزيعة.." والذي في الأصول: "ضل ابن زرعة..". ويعني بابن بزعة: شداد بن المنذر أخا حصين الذهلي. وقوله "كآخر مثله" يعني حوشب بن رؤيم.
[2924]:- أولى لك: ويل لك، فهي كلمة تقال في مقام التهديد والوعيد. وقال الأصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به.
[2925]:- المؤرج (كمحدث): أبو فيد عمرو بن الحارث السدوسي النحوي البصري، أحد أئمة اللغة والأدب.
[2926]:- النواضح من الإبل التي يستقى عليها، واحدها ناضح. والخطاب للأنصار: وقد قعدوا عن تلقيه لما حج، وأراد معاوية بذكر نواضحهم تقريعا لهم وتعريضا؛ لأنهم كانوا أهل زرع وحرث وسقى، فأجابوه بما أسكنه، فهم يريدون بقولهم "هزلناها يوم بدر" التعريض بقتل أشياخه يوم بدر. (النهاية).
[2927]:- السكة (بكسر السين وتشديد الكاف المفتوحة): الحديدة التي تحرث بها الأرض.
[2928]:- اللغة الفصحى "من الإخلاد".
[2929]:- يقال: تمعدد الغلام إذا شب وغلظ. وقيل: أراد تشبهوا بعيش سعد بن عدنان وكانوا أهل غلظ وقشف، أي: كونوا مثلهم ودعوا التنعم وزي العجم.
[2930]:- في مسند الإمام أحمد بن حنبل: "وألقوا الركب" جمع ركاب: هي الرواحل من الإبل، أو جمع ركوب وهي كل ما يركب من دابة.
[2931]:- الرساتيق: السواد والقرى واحدها رستاق، وفي ز: البساتين.
[2932]:- الجلف (بكسر فسكون): الخبز وحده لا أدم معه، وقيل: هو الخبز الغليظ اليابس