الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ} (20)

قوله تعالى : " وما لأحد عنده من نعمة تجزى " أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة ، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى ، أي المتعالي " ولسوف يرضى " أي بالجزاء . فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال : عذب المشركون بلالا ، وبلال يقول أحد أحد ، فمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : [ أحد - يعني اللّه تعالى - ينجيك ] ثم قال لأبي بكر : [ يا أبا بكر إن بلالا يعذب في اللّه ] فعرف أبو بكر الذي يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانصرف إلى منزله ، فأخذ رطلا من ذهب ، ومضى به إلى أمية بن خلف ، فقال له : أتبيعني بلالا ؟ قال : نعم ، فاشتراه فأعتقه . فقال المشركون : ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده ، فنزلت " وما لأحد عنده " أي عند أبي بكر " من نعمة " ، أي من يد ومنة ، " تجزى " بل " ابتغاء " بما فعل " وجه ربه الأعلى " . وقيل : اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا ، ببردة وعشر أواق ، فأعتقه لله ، فنزلت : " إن سعيكم لشتى " [ الليل : 4 ] . وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر : أتبيعنيه ؟ فقال : نعم ، أبيعه بنسطاس ، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر ، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش ، وكان مشركا ، فحمله أبو بكر على الإسلام ، على أن يكون ماله ، فأبى ، فباعه أبو بكر به . فقال المشركون : ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده ، فنزلت " وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء " أي لكن ابتغاء ، فهو استثناء منقطع ؛ فلذلك نصبت . كقولك : ما في الدار أحد إلا حمارا . ويجوز الرفع . وقرأ يحيى بن وثاب " إلا ابتغاء وجه ربه " بالرفع ، على لغة من يقول : يجوز الرفع في المستثنى . وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم :

أضحت خلاءً قِفَاراً لا أنيسَ بها *** إلا الجآذرَ والظلمانَ تختلفُ{[16125]}

وقول القائل :

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ{[16126]}

وفي التنزيل : " ما فعلوه إلا قليل منهم{[16127]} " [ النساء : 66 ] وقد تقدم . " وجه ربه الأعلى " أي مرضاته وما يقرب منه . و " الأعلى " من نعت الرب الذي استحق صفات العلو . ويجوز أن يكون " ابتغاء وجه ربه " مفعولا له على المعنى ؛ لأن معنى الكلام : لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمته . " ولسوف يرضى " أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي ، وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق . وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : [ رحم اللّه أبا بكر زوجني ابنته ، وحملني إلى دار الهجرة ، وأعتق بلالا من ماله ] . ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال : هل اشتريتني لعملك أو لعمل اللّه ؟ قال : بل لعمل اللّه قال : فذرني وعمل اللّه ، فأعتقه . وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي اللّه عنه . وقال عطاء - وروى عن ابن عباس - : إن السورة نزلت في أبي الدحداح ، في النخلة التي اشتراها بحائط له ، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء . وقال القشيري عن ابن عباس : بأربعين نخلة ، ولم يسم الرجل . قال عطاء : كان لرجل من الأنصار نخلة ، يسقط من بلحها في دار جار له ، فيتناول صبيانه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم . [ تبيعها بنخلة في الجنة ] ؟ فأبى ، فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال : هل لك أن تبيعنيها ب " حسنى " : حائط له . فقال : هي لك . فأتى أبو الدحداح إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : يا رسول اللّه ، اشترها مني بنخلة في الجنة . قال : [ نعم ، والذي نفسي بيده ] فقال : هي لك يا رسول اللّه ، فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم جار الأنصاري ، فقال : [ خذها ] فنزلت " والليل إذا يغشى " [ الليل : 1 ] إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة . " فأما من أعطى واتقى " يعني أبا الدحداح . " وصدق بالحسنى " أي بالثواب . " فسنيسره لليسرى " : يعني الجنة . " وأما من بخل واستغنى " يعني الأنصاري . " وكذب بالحسنى " أي بالثواب . " فسنيسره للعسرى " ، يعني جهنم . " وما يغني عنه ماله إذا تردى " أي مات . إلى قوله : " لا يصلاها إلا الأشقى " يعني بذلك الخزرجي ، وكان منافقا ، فمات على نفاقه . " وسيجنبها الأتقى " يعني أبا الدحداح . " الذي يؤتي ماله يتزكى " في ثمن تلك النخلة . " ما لأحد عنده من نعمة تجزى " يكافئه عليها ، يعني أبا الدحداح .


[16125]:الجآذر (جمع جؤذر) وهو ولد البقرة الوحشية. والظلمان ( بالكسر والضم): جمع الظليم، وهو الذكر من النعام.
[16126]:اليعافير: جمع يعفور: وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضا. والعيس: إبل بيض تخالط بياضها شقرة، جمع أعيس وعيساء.
[16127]:آية 66 سورة النساء. راجع جـ 5 ص 270.