مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ} (20)

قوله تعالى : { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى } فيه مسائل :

المسألة الأولى : { ابتغاء وجه ربه } مستثنى من غير جنسه وهو النعمة ( أي ما لأحد عنده ) نعمة { إلا ابتغاء وجه ربه } كقولك ما في الدار أحدا إلا حمارا ، وذكر الفراء فيه وجها آخر وهو أن يضمر الإنفاق على تقدير : ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، كقوله : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } .

المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى بين أن هذا : ( الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) لا يؤتيه مكافأة على هدية أو نعمة سالفة ، لأن ذلك يجري مجرى أداء الدين ، فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب بل إنما يستحق الثواب إذا فعله ، لأجل أن الله أمره به وحثه عليه .

المسألة الثالثة : المجسمة تمسكوا بلفظة الوجه والملحدة تمسكوا بلفظة { ربه الأعلى } وإن ذلك يقضي وجود رب آخر ، وقد تقدم الكلام على كل ذلك .

المسألة الرابعة : ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب «الإمامة » ، فقال : الآية الواردة في حق علي عليه السلام : { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } والآية الواردة في حق أبي بكر : { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى } فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله ، وللخوف من يوم القيامة على ما قال : { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } وأما آية أبي بكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب ، فكان مقام أبي بكر أعلى وأجل .

المسألة الخامسة : من الناس من قال : ابتغاء الله بمعنى ابتغاء ذاته وهي محال ، فلابد وأن يكون المراد ابتغاء ثوابه وكرامته ، ومن الناس من قال : لا حاجة إلى هذا الإضمار ، وحقيقة هذه المسألة راجعة إلى أنه هل يمكن أن يحب العبد ذات الله ، أو المراد من هذه المحبة محبة ثوابه وكرامته ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله : { والذين آمنوا أشد حبا لله } .

المسألة السادسة : قرأ يحيى بن وثاب : { إلا ابتغاء وجه ربه } بالرفع على لغة من يقول : ما في الدار أحد إلا حمارا وأنشد في اللغتين ، قوله :

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس