الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ} (11)

الرابعة- قوله تعالى : " وأما بنعمة ربك فحدث " أي أنشر ما أنعم اللّه عليك بالشكر والثناء . والتحدث بنعم اللّه ، والاعتراف بها شكر . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد " وأما بنعمة ربك " قال بالقرآن . وعنه قال : بالنبوة ، أي بلغ ما أرسلت به . والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والحكم عام له ولغيره . وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال : إذا أصبت خيرا ، أو عملت خيرا ، فحدث به الثقة من إخوانك . وعن عمرو بن ميمون قال : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به ، يقول له : رزق اللّه من الصلاة البارحة كذا وكذا . وكان أبو فراس عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول : لقد رزقني اللّه البارحة كذا ، قرأت كذا ، وصليت كذا ، وذكرت اللّه كذا ، وفعلت كذا . فقلنا له : يا أبا فراس ، إن مثلك لا يقول هذا قال يقول اللّه تعالى : " وأما بنعمة ربك فحدث " وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة اللّه ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي اللّه عنهم . وقال بكر بن عبد الله المزني قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( من أعطي خيرا فلم ير عليه ، سمي بغيض اللّه ، معاديا لنعم اللّه ) . وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : [ من لم يشكر القليل ، لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس ، لم يشكر اللّه ، والتحدث بالنعم شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ] . وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال : كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا ، فرآني رث الثياب فقال : [ ألك مال ؟ ] قلت : نعم ، يا رسول اللّه ، من كل المال . قال : [ إذا آتاك اللّه مالا فلير أثره عليك ] . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : [ إن اللّه جميل يحب الجمال ، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده ] .

ختام السورة:

فصل : يُكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : إذا بلغ آخر " والضحى " كبر بين{[1]} كل سورة تكبيرة ، إلى أن يختم القرآن ، ولا يصل آخر السورة بتكبيره ، بل يفصل بينهما بسكتة . وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أياما ، فقال ناس من المشركين : قد ودعه صاحبه وقلاه ، فنزلت هذه السورة فقال : [ اللّه أكبر ] . قال مجاهد : قرأت على ابن عباس ، فأمرني به ، وأخبرني به عن أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم . ولا يكبر في قراءة الباقين ؛ لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن .

قلت : القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، فالكبير على هذا ليس بقرآن . فإذا كان بسم اللّه الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن ، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب . أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد ، فاستحبه ابن كثير ، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه . ذكر الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري ومسلم : حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد ، المقرئ الإمام بمكة ، في المسجد الحرام ، قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين ، فلما بلغت " والضحى " قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم ، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت " والضحى " قال : كبر حتى تختم . وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد ، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك ، وأخبره أبيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره بذلك . هذا حديث صحيح ولم يخرجاه .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).