وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب ، ووقوعه ، ومستحقيه ، ومصدره ، وعلو هذا المصدر ورفعته ، مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع . . بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب ، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب . ولكن تقدير الله غير تقدير البشر ، ومقاييسه غير مقاييسهم :
( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا ، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) . .
والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة ، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى . وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله . والروح : الأرجح أنه جبريل عليه السلام ، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى . وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص . وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر ، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته ، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه . ولا ندري نحن - ولم نكلف أن ندري - طبيعة هذه المهام ، ولا كيف يصعد الملائكة ، ولا إلى أين يصعدون . فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص ، وليس لنا إليها من سبيل ، وليس لنا عليها من دليل . فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم ، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم .
وأما ( كان مقداره خمسين ألف سنة ) . . فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي . وقد تعني حقيقة معينة ، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد ! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن . فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة . وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات . . ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا . ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم !
{ تَعْرُجُ الملائكة والروح } أي جبريل عليه السلام كما ذهب إليه الجمهور أفرد بالذكر لتميزه وفضله بناء على المشهور من أنه عليه السلام أفضل الملائكة وقيل لمجرد التشريف وإن لم يكن عليه السلام أفضلهم بناءً على ما قيل من أن إسرافيل عليه السلام أفضل منه وقال مجاهد الروح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا وقيل خلق هم حفظة الملائكة مطلقاً كما أن الملائكة حفظة الناس وقيل ملك عظيم الخلقة يقوم وحده يوم القيامة صفاً ويقوم الملائكة كلهم صفاً وقال أبو صالح خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس وقال قبيصة بن ذؤيب روح الميت حين تقبض ولعله أراد الميت المؤمن وقرأ عبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش يعرج بالياء التحتية { إِلَيْهِ } قيل أي إلى عرشه تعالى وحيث يهبط منه أوامره سبحانه وقيل هو من قبيل قول إبراهيم عليه السلام { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] أي إلى حيث أمرني عز وجل به وقيل المراد إلى محل بره وكرامته جل وعلا على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إلى المكان المنتهى إليه الدال عليه السياق وفسر بمحل الملائكة عليهم السلام من السماء ومعظم السلف يعدون ذلك من المتشابه مع تنزيهه عز وجل عن المكان والجسمية واللوازم التي لا تليق بشأن الألوهية وقوله تعالى : { في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } أي من سنينكم الظاهر تعلقه بتعرج واليوم بمعنى الوقت والمراد به مقدار ما يقوم الناس فيه لرب العالمين إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من اليوم الآخر والذي لا نهاية له ويشير إلى هذا ما أخرج الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا واختلف في المراد بهذا التقدير على هذا الوجه فقيل الإشارة إلى استطالة ذلك اليوم لشدته لا أنه بهذا المقدار من العدد حقيقة وروى هذا عن ابن عباس والعرب تصف أوقات الشدة والحزن بالطول وأوقات الرخاء والفرح بالقصر ومن ذلك قول الشاعر :
من قصر الليل إذا زرتني *** أشكو وتشكين من الطول
ليلى وليلى نفي نومي اختلافهما *** بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلى كلما بخلت *** بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
ويوم كظل الرمح قصر طوله *** دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
إلى ما لا يكاد يحصى وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر السابق أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة إشارة إلى هذا وكذا ما روي عن عبد الله بن عمر من قول يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك اليوم ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه ولينظر على هذا القول ما حكمة التنصيص على العدد المذكور وقيل هو على ظاهره وحقيقته وإن في ذلك اليوم خمسين موطناً كل موطن ألف سنة من سني الدنيا أي حقيقة وقيل الخمسون على حقيقتها إلا أن المعنى مقدار ما يقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وهو مروي عن عكرمة وأشار بعضهم إلى أن المقدار المذكور عليه مجاز عما يلزمه من كثرة ما يقع فيه من المحاسبات أو كناية فكأنه قيل في يوم يكثر فيه الحساب ويطول بحيث لو وقع من غير أسرع الحاسبين وفي الدنيا طال إلى خمسين ألف سنة وتخصيص عروج الملائكة والروح بذلك اليوم مع أن عروجهم متحقق في غيره أيضاً للإشارة إلى عظم هوله وانقطاع الخلق فيه إلى الله عز وجل وانتظارهم أمره سبحانه فيهم أو للإشارة إلى عظم الهول على وجه آخر وأياً ما كان فالجملة استئناف مؤكد لما سيق له الكلام وقيل هو متعلق بواقع وقيل بدافع وقيل بسال إذا جعل من السيلان لا به من السؤال لأنه لم يقع فيه والمراد باليوم على هذه الأقوال ما أريد به فيما سبق وتعرج الملائكة والروح إليه مستطرد عند وصفه عز وجل بذي المعارج وقيل هو متعلق بتعرج كما هو الظاهر إلا أن العروج في الدنيا والمعنى تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى ويقطعون في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض سيره فيه وروى عن ابن إسحق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة وهو رواية عن ابن عباس أيضاً واختلف في تحديد المسافة فقيل هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش وقيل من قعر الأرض السابعة السفلى إلى العرش وفصل بأن ثخن كل أرض خمسمائة عام وبين كل أرضين خمسمائة عام وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام وثخن كل سماء كذلك وما بين كل سماءين كذلك وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك ومجموع ذلك أربعة عشر ألف عام ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة ست وثلاثين ألف عام فالمجموع خمسون ألف سنة وفي خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ولعله لا يصح وإن لم تبعد هذه السرعة من الملائكة عليهم السلام عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله عز وجل على كل شيء قدير ومن الناس من اعتبر هذه المدة من الأرض إلى العرش عروجاً وهبوطاً واعتبرها كذلك من الأرض إلى مقعر السماء الدنيا في قوله سبحانه { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة } [ السجدة : 50 ] ومن يعتبر أحد الأمرين يعتبر هنا محدب السماء الدنيا والأرض وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للمتصوفة في ذلك وقيل الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على سبيل التمثيل والتخييل والمراد أنها في غاية البعد والارتفاع المعنوي على بعض الأوجه في المعارج أو الحسي كما في بعض آخر وليس المراد التحديد وعن عكرمة أن تلك المدة هي مدة الدنيا منذ خلقت إلى أن تقوم الساعة إلا أنه لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي أي تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية وهذا يحتاج إلى نقل صحيح والظاهر أنه أراد بالدنيا ما يقابل الأخرى ويشمل العرش ونحوه ويرد عليه أن ما ورد عن علي كرم الله تعالى وجهه جواباً لمن سأله متى خلق الله تعالى العرش يكذبه فإنه يدل على أن ما مضى من أول زمن خلقه إلى اليوم يزيد على خمسين ألف سنة بألوف ألوف سنين لا يحصيها إلا الله عز وجل ولعله أولى بالقبول مما قاله عكرمة والحق أنه لا يعلم مبدأ الخلق ولا مدة بقاء هذه البنية إلا الله عز وجل بيد أنا نعلم بتوفيق الله تعالى أن هذا العالم حادث حدوثاً زمانياً وأنه ستبدل الأرض غير الأرض والسموات وتبرز الخلائق لله تعالى الواحد القهار .
قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } والروح هو جبريل ( عليه السلام ) وهو الوحي الأمين . فهو والملائكة جميعا يصعدون المعارج وهي الدرجات جعلها الله لهم ليصعدوا فيها إلى حيث يأمرهم الله { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } يعني تصعد الملائكة وجبريل بأمر الله من منتهى الأرض إلى السماء السابعة في يوم كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تعرج} يعني تصعد {الملائكة} من سماء إلى سماء العرش {والروح} يعني جبريل، عليه السلام، {إليه} في الدنيا برزق السماوات السبع.
ثم أخبر الله عز وجل عن ذلك العذاب متى يقع بها فقال: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
تصعد الملائكة والروح، وهو جبريل عليه السلام إليه، يعني إلى الله جلّ وعزّ، والهاء في قوله: "إلَيْهِ " عائدة على اسم الله.
"في يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ": كان مقدار صعودهم ذلك في يوم لغيرهم من الخلق خمسين ألف سنة، وذلك أنها تصعد من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة.
عن ابن عباس، في قوله:"تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ" فهذا يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة...
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن درّاجا حدّثه عن أبي الهيثم عن سعيد، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ" ما أطول هذا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّهُ لَيُخَفّفُ عَلى المُؤْمِنِ حتى يَكُونَ أخَفّ عَلَيْهِ مِنَ الصّلاةِ المَكْتُوبَةِ يُصَلّيها فِي الدّنْيا»...
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك غير القول الذي ذكرنا عنه، وذلك ما: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن رجلاً سأل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ قال: إنما سألتك لتخبرني، قال: هما يومان ذكرهما الله في القرآن، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ومن قدر على أن يخلق في خلق من خلائقه من القوة ما يقطع هذه المسافة في يوم واحد، لا يحتمل أن يعجزه شيء. فيكون في ذكر هذا تحقيق كون ما به هولوا من القيامة والبعث. وجائز أن يكون قوله: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} راجعا إلى يوم القيامة، فذكر في موضع: {في يوم كان مقدراه ألف سنة} [السجدة: 5] وذكر ههنا: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}. فالأصل أن ذلك اليوم ليس بذي حد، ولا له غاية، ينتهي إليه، يخبر فيه عن الحد، فهو يخرج مخرج تعظيم ذلك اليوم ليقع به التهويل والتفزيع، فأي شيء يعظم ذكره في القلوب يذكر بالخلود، وهو قوله عز وجل: {ذلك يوم الخلود} [ق: 34] ومرة قال: {لابثين فيها أحقابا} [النبأ: 23] ومرة قال: {خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] ومرة قال: {ألف سنة} [السجدة: 5] إذ هذه الأشياء مما تعظم في القلوب، وكذلك الألف، هي عظيمة القلوب. فإذا كانت هذه الأشياء يعظم ذكرها في القلوب فذكر الشيء الواحد من الجملة، أو ذكر الأشياء يقتضي معنى واحدا. ومنهم من يصرف الألف إلى تقدير عروج الخلائق إلى السماء في ذلك اليوم، ويصرف قوله: {خمسين ألف سنة} إلى تقدير المقام للحساب قبل أن يدخلوا النار. وجائز أن يكون تأويله على ما ذكره بعض أهل التفسير، وهو أن الله تعالى لو جعل حساب الخلق يومئذ إلى الخلق، فتكلفوا أن يفرغوا من حسابهم لن يفرغوا منه إلا في مقدار خمسين ألف سنة. لكن الله تعالى بلطفه يحاسبهم حسابا، يفرغ منه في أدنى وقت حتى يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار على ما جاء في الأخبار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: بل قدره في هوله وشدته ورزاياه للكفار قدر {خمسين ألف سنة}. وهذا كما تقول في اليوم العصيب، إنه كسنة.
اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر، كما في هذه الآية، وكما في قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} وهذا يقتضي أن الروح أعظم من الملائكة قدرا، ثم هاهنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج الملائكة أولا والروح ثانيا، كما في هذه الآية، وذكر عند القيام الروح أولا والملائكة ثانيا، كما في قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} وهذا يقتضي كون الروح أولا في درجة النزول وآخرا في درجة الصعود.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بُهلول بن المورق حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني [عن] محمد بن كعب: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمرو الغُداني قال: كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له: هذا أكثر عامري مالا. فقال أبو هريرة: ردوه، فقال: نبئت أنك ذو مال كثير؟ فقال العامري: أي والله، إن لي لمائة حُمْرًا و مائة أدمًا، حتى عد من ألوان الإبل، وأفنان الرقيق، ورباط الخيل، فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم -يُرَدّد ذلك عليه، حتى جعل لونُ العامري يتغير- فقال: ما ذاك يا أبا هُرَيرة؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها -قلنا يا رسول الله: ما نجدتُها ورِسْلُها؟ قال: " في عُسرها ويسرها- " فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله. وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله". قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغَزيرَة، وتفقر الظهر، وتَسقيَ اللبن وتُطرقَ الفحل.
وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة، كلاهما عن قتادة، به...
والغرض من إيراده هاهنا قوله: " حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله: {تعرج الملائكة} أي وهم أشد الخلق وأقدره على اختراق الطباق، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق الخفاق {والروح} أي جبريل عليه السلام، خصه تعظيماً له، أو هو خلق هو أعظم من الملائكة، وقيل: روح العبد المؤمن إذا قبض {إليه} أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته، وعلق بالعروج أو بواقع قوله: {في يوم} أي من أيامكم، وبين عظمته بقوله (كان) أي كونا هو في غاية الثبات (مقداره) أي لو كان الصاعد فيه آدمياً {خمسين ألف} وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن أريد القيامة بأن قال: {سنة} ولم يقل: عاماً -مثلاً.
ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة، وأن يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه ورد أنه يخفف على المؤمن حتى يكون بمقدار صلاة واحدة -
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب، ووقوعه، ومستحقيه، ومصدره، وعلو هذا المصدر ورفعته، مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع.. بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب. ولكن تقدير الله غير تقدير البشر، ومقاييسه غير مقاييسهم: من الآية 4 الى الآية 5 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فاصبر صبرا جميلا، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).. والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى. وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله. والروح: الأرجح أنه جبريل عليه السلام، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى. وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص. وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه. ولا ندري نحن -ولم نكلف أن ندري- طبيعة هذه المهام، ولا كيف يصعد الملائكة، ولا إلى أين يصعدون. فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص، وليس لنا إليها من سبيل، وليس لنا عليها من دليل. فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم. وأما (كان مقداره خمسين ألف سنة).. فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي. وقد تعني حقيقة معينة، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن. فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة. وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات.. ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا. ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم!