( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) . .
وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه . ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان . فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم ، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم ! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة ، وقيمة الأمنية ، وقيمة الوعد ، في ضوء الواقع الثقيل ! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة ، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة ، إنما هو تحقيق الكلمة ، وتجسيم الأمنية ، والجهاد الحقيقي ، والصبر على المعاناة . حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس !
ولقد كان الله - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى ، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء . وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين ، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . .
ولكن المسألة ليست هي النصر . . إنما هي تربية الجماعة المسلمة ، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية . . البشرية بكل ضعفها ونقصها ؛ وبكل شهواتها ونزواتها ؛ وبكل جاهليتها وانحرافها . . وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة . وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق ، وثبات على الحق ، وصبر على المعاناة ، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية ، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ، ووسائل العلاج . . ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة . وصبر على الشدة بعد الرخاء . وطعمها يومئذ لاذع مرير ! . .
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق ، الذي ينوطه بها في هذه الأرض . وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب " الإنسان " الذي استخلفه في هذا الملك العريض !
وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه ، بشتى الأسباب والوسائل ، وشتى الملابسات والوقائع . . يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة ، فتستبشر ، وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر ، وتصبر على نشوته ، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء ، وعلى التزام التواضع والشكر لله . . ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة . فتلجأ إلى الله ، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية ، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله . وتجرب مرارة الهزيمة ؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل ، بما عندها من الحق المجرد ؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها ، ومداخل شهواتها ، ومزالق أقدامها ؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . . وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . . ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد . .
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعاً بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام ، والواو عاطفة أو حالية .
والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الَّذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله : { كنتم تمنّون الموت } أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد ، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدّفاع ، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظراً لقوة العدوّ وكثرته ، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم ، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده ، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر ، تنزيلاً لِغاية التمنّي منزلة مبدئه .
وقوله : { من قبل أن تلقوه } تعريض بأنَّهم تمنّوا أمراً مع الإغضاء عن شدّته عليهم ، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب .
وقوله : { فقد رأيتموه } أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة ، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله : { فقد رأيتموه } تمثيلاً ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع ، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي :
وشممتُ ريح الموت من تلقائهم *** في مأزق والخيل لم تتبدّد
وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية : فضمّني ضمّة وَجَدْت منها ريحَ الموت .
والفاء في قوله : { فقد رأيتموه } فاء الفصيحة عن قوله : { كنتم تمنون } والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه ، أو التقدير : فإن كان تمنّيكم حقّاً فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنّى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :
قالُوا خُراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثُمّ القُفول فقدْ جِئْنا خُراسانا
ومنه قوله تعالى : { فقد كذّبوكم بما تقولون } [ الفرقان : 19 ] وقوله في سورة الروم ( 56 ) : { فهذا يوم البعث } .
وجملة { وأنتم تنظرون } حال مؤكّدة لمعنى { رأيتُموه } ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر ، دون الغَناء في وقت الخطر ، فأنتم مبهوتون . ومحلّ الموعظة من الآية : أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه ، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه . ومحلّ المعذرة في قوله : { من قبل أن تلقوه } وقوله : { فقد رأيتموه } ومحلّ الملام في قوله : { وأنتم تنظرون } .
ويحتمل أن يكون قوله : { تمنون الموت } بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنَّه تعريض بهم بأنَّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة . إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفّوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه ، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل : ( إذا لم تستطع شيئاً فدعه ) .
كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ، ثُمّ أُحيا ثُمّ أقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أقْتل " وقال عمر : « اللَّهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك » وقال ابن رواحة :
لكنّني أسأل الرّحمانَ مغفــرة *** وضربةً ذات فرغ تقذِف الزبدا
حتَّى يقولوا إذا مَرّوا على جَدثي *** أرشدَك الله من غازٍ وقد رشدا
وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت ، بمعنى أسبابه ، تنزيلاً لرؤية أسبابه منزلة رؤيته ، وهو كالاستخدام ، وعندي أنَّه أقرب من الاستخدام لأنَّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ}: ولقد كنتم يا معشر أصحاب محمد تمنون الموت، يعني أسباب الموت وذلك القتال {فقدْ رَأيتموه} فقد رأيتم ما كنتم تمنونه. والهاء في قوله «رأيتموه»، عائدة على الموت، ومعنى: {وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ} يعني: قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر: أي بقرب منكم. وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل: {وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ} على وجه التوكيد للكلام، كما يقال: رأيته عيانا، ورأيته بعيني، وسمعته بأذني وإنما قيل: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ} لأن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرا، كانوا يتمنون قبل أُحد يوما مثل يوم بدر، فيِبلوا الله من أنفسهم خيرا، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر، فلما كان يوم أُحد فرّ بعضهم وصبر بعضهم، حتى أوفى بما كان عاهد الله قبل ذلك، فعاتب الله من فرّ منهم، فقال: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ...} وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فإن قيل هل يجوز أن يتمنى قتل المشركين لهم لينالوا منزلة الشهادة؟ قلنا: لا، لأن قتل المشركين لهم معصية، ولا يجوز تمني المعاصي، كما لا يجوز إرادتها، ولا الأمر بها، فإذا ثبت ذلك، فتمنيهم الشهادة بالصبر على الجهاد إلى أن يُقتلوا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر. وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعني: وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده. فإن قلت: كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر المسلم؟ قلت: قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله وتنفيقا لصناعته.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعدما بين تعالى للمؤمنين أن الفوز والظفر في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة لا يكونان إلا بالأماني والغرور؛ ولا ينالان بالمحاباة والكيل والجزاف، بل الجهاد ومكافحة الأيام، ومصابرة الشدائد والأهوال، واتباع سنن الله في هذا العالم- وبعدما بين لهم أن دعوى الإيمان ودعوى الجهاد والصبر لا يترتب عليهما الجزاء بالنصر ودخول الجنة وإنما يترتب ذلك على تحققهما بحسب علم الله المطابق للواقع لا بحسب ظن الناس وشعورهم- بعد هذا وذاك أرشدهم إلى أمر واقع يظهر لهم به تأويل قوله تعالى: {وليعلم الله الذين آمنوا} وقوله: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} الخ وطريق الجمع بينه وبين شعورهم واعتقادهم ذلك أنهم لم يقصروا في الجهاد والصبر فيتعلمون كيف يحاسبون أنفسهم ولا يتغرون بشعورهم وخواطره فقال: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} الخطاب لجماعة المسلمين الذين شهدوا وقعة أحد. وقد ذكرنا في تلخيص القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه لا يخرج للمشركين بل يستعد لمدافعتهم في المدينة، وكان على هذا الرأي جماعة من كبراء الصحابة وبه صرح عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين وأن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ومناجزتهم هناك وأن الشبان ومن لم يشهد بدرا كانوا يلحون في الخروج. لهذا قال مجاهد: إن هذه الآية عتاب لرجال غابوا عن بدر فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر، فلما كان يوم أحد ولي منهم من ولي فعاتبهم الله. وروي نحو ذلك عن غيره منهم الربيع والسدي. وروي عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: لئن لقينا العدو مع النبي صلى الله عليه وسلم لنفعلن ولنفعلن، فابتلوا بذلك فلا والله ما كلهم صدق، فأنزل الله عز وجل "ولقد كنتم تمنون الموت "فأطلق الحسن ولم يخص من لم يشهد بدرا وهو الصواب، فإن الذين كانوا يتمنون القتال كثيرون...
قلنا: إن هذه أظهرت للمؤمنين تأويل قوله تعالى في إيمانهم وجهادهم وصبرهم، وعلَّمتْهم كيف يحاسبون أنفسهم ويمتحنون قلوبهم. وبيان ذلك أنهم تمنوا القتال أو الموت في القتال لينالوا مرتبة الشهادة، وقد أثبت الله لهم هذا التمني وأكده بقوله: (ولقد) فلم يكن ذلك منهم دعوى قولية ولا صورة في الذهن خيالية بل كان حقيقة واقعة في النفس ولكنها زالت عند مجيء دور الفعل. وهذه مرتبة من مراتب النفس في شعورها وعرفانها هي دون مرتبة الكمال الذي يصدقه العمل وفوق مرتبة التصور والتخيل مع الانصراف عن تمني العمل بمقتضاه أو مع كراهته والهرب منه- كما يتوهم بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ولكنه يهرب من كل طريق يخشى أن يطالب فيه بعمل يأتيه لأجلهما، أو مال يعاون به العاملين لهما، أو يكون خالي الذهن من الفكر في العمل أو البذل لإعلاء شأن هذا المحبوب أو كف العدوان أو الشر عنه. فهاتان مرتبتان دون مرتبة من يتصور أنه يحب ملته ووطنه ويفكر في خدمتهما ويتمنى لو يُتاح له ذلك، حتى إذا احتيج إلى خدمته التي كان يفكر فيها ويتمناها وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته، وإنما المطلوب في الإيمان ما هو أعلى من هذه المرتبة، المطلوب فيه مرتبة اليقين والإذعان النفسي التي من مقتضاها العمل مهما كان شاقا والجهاد مهما كان عسرا والصبر على المكاره وإيثار الحق على الباطل، وقد تقدم في تفسير (ليعلم الله) وتفسير (وليمحص الله) من الآيتين السابقتين أمثلة تزيد المبحث وضوحا. وقد كان في مجموع المخاطبين بالآية عند نزولها من هم في المرتبة العليا، وأولئك هم المجاهدون الصابرون الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال لا ثبات الأبطال، وهم نحو ثلاثين رجلا... وإنما جعل الخطاب عاما ليكون تربية عامة، فإن أصحاب المراتب العلية يتهمون نفسهم بالتقصير فيزدادون كمالا. فهذه الآية تنبه كل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي وتهديه إلى امتحان نفسه بالعمل الشاق، وعدم الثقة بما دون الجهاد والصبر على المكاره في سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة، بلْهَ الدعوى الباطلة، وإنما الخادعة أن تدعي ما تتوهم أنك صادق فيه، مع الغفلة أو الجهل بعجزك عنه، والباطلة لا تخفى عليك، وإنما تظن أنها تخفى على سواك. قد أشرنا إلى أن الظاهر من تمني الموت هو تمني الشهادة في سبيل الله وقول بعضهم أن المراد بالموت الحرب لأنها سببه- وعد بعضهم تمني الشهادة المأثور عن كثير من الصحابة مشكلا، لأنه يستلزم انتصار الكفار على المشركين. ولا إشكال إلا في مخ من اخترع هذه العبارة، فإن الذي يتمنى الشهادة في سبيل الله لا يلقي بنفسه إلى التهلكة ولا يقصر في الدفاع والصدام حتى يقال إنه مكن الأعداء منه ومهد لهم سبيل الظفر بالمؤمنين، وإنما يكون أقوى جهادا وأشد جلادا وأجدر بأن ينصر قومه ويخذل من يحاربهم. ثم إنه لا يقصد لازم الموت والشهادة من نقص عدد المسلمين أو ضعفهم. على أن هذا اللازم إنما يتبع استشهاد الكثير أو الأكثر منهم ومن يتمن الشهادة فإنما يتمناها لنفسه دون العدد الكثير من قومه.
وقال الأستاذ الإمام: إن تمني الشهادة الذي وقع ليس تمنيا مطلقا، وإنما هو تمني من يقال لنصرة الحق أن تذهب نفسه دونه، فإذا هو وصل إلى ما ينبغي من نصرة الحق وإعزازه بانهزام أهل الباطل وخذلانهم فبها ونعمت، وإلا فضل الموت في سبيل إعزاز الحق ورآه خيرا من البقاء من إذلاله وغلبة الباطل عليه. وقال إن الخطاب لمن سبق لهم تمني الموت بعد أن فاته حضور وقعة بدر أو الشهادة فيها لبعض من حضرها، ثم جاءت وقعة أحد فكان منهم من انكسرت نفسه في أثناء الواقعة ووهن عزمه، ومنهم وهن وضعف بعدها عندما ندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباع المشركين معه في حمراء الأسد. كأنه يقول: يا سبحان الله لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الحرب، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه فما بالكم دهشتم، عندما وقع الموت فيكم؟ وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون؟ ومن تمنى الشيء وسعى إليه؛ لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءه، فقوله: {وأنتم تنظرون} للتأكيد، لأن الإنسان يرى الشيء أحيانا ولكنه لانشغاله عنه ربما لا يتبينه فأراد أن يقول إنكم قد رأيتموه رؤية كان لها الأثر الثابت في نفوسكم، لا رؤية من قبيل لمح الشيء مع الغفلة عنه وعدم المبالاة به...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
في هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها، والله أعلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه. ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان. فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة، وقيمة الأمنية، وقيمة الوعد، في ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة، إنما هو تحقيق الكلمة، وتجسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعاناة. حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس! ولقد كان الله -سبحانه- قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء. وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم -أو بدونهم- وتدمر على المشركين، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط.. ولكن المسألة ليست هي النصر.. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية.. البشرية بكل ضعفها ونقصها؛ وبكل شهواتها ونزواتها؛ وبكل جاهليتها وانحرافها.. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة. وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج.. ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة. وصبر على الشدة بعد الرخاء. وطعمها يومئذ لاذع مرير!.. وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض. وقد شاء -سبحانه- أن يجعل هذا الدور من نصيب "الإنسان "الذي استخلفه في هذا الملك العريض! وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع.. يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها -في ظل العون الإلهي- وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوته، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع والشكر لله.. ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة. فتلجأ إلى الله، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله. وتجرب مرارة الهزيمة؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحق المجرد؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة.. وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد.. ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد.. وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة -على نحو ما نرى في هذه الآيات- وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز، ليكون جامعاً بين الموعظة، والمعذرة، والملام، والواو عاطفة أو حالية. والخطاب للأحياء، لا محالة، الَّذين لم يذوقوا الموت، ولم ينالوا الشهادة، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة، فقوله: {كنتم تمنّون الموت} أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة، ويقفوا موقف الدّفاع، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء، ولو كان فيه الموت، نظراً لقوة العدوّ وكثرته، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر، تنزيلاً لِغاية التمنّي منزلة مبدئه. وقوله: {من قبل أن تلقوه} تعريض بأنَّهم تمنّوا أمراً مع الإغضاء عن شدّته عليهم، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب... والفاء في قوله: {فقد رأيتموه} فاء الفصيحة عن قوله: {كنتم تمنون} والتقدير: وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه، أو التقدير: فإن كان تمنّيكم حقّاً فقد رأيتموه، والمعنى: فأين بلاء من يتمنّى الموت...
وجملة {وأنتم تنظرون} حال مؤكّدة لمعنى {رأيتُموه}، أو هو تفريع أي: رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر، دون الغَناء في وقت الخطر، فأنتم مبهوتون. ومحلّ الموعظة من الآية: أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه. ومحلّ المعذرة في قوله: {من قبل أن تلقوه} وقوله: {فقد رأيتموه} ومحلّ الملام في قوله: {وأنتم تنظرون}.
ويحتمل أن يكون قوله: {تمنون الموت} بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت، وكأنَّه تعريض بهم بأنَّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة. إذ قد جبنوا وقت الحاجة، وخفّوا إلى الغنيمة، فالكلام ملام محض على هذا، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل: (إذا لم تستطع شيئاً فدعه)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ويتضمن النظر بعد وقوع الانهزام كيف تفرقت الإرادات، وقد كانت إرادة واحدة، وكيف تضعضعت بعض الهمم، وكيف كثرت الظنون، وكيف أصابكم الغم، ولم تفكروا في إعادة الوثبة، ولذلك كان قوله تعالى: {وانتم تنظرون} متضمنا تأكيد الرؤية ومصورا لها، ومتضمنا مع ذلك العتب او اللوم؛ لأن حالهم لم تكن متفقة مع ما كانوا يتوقعونه من قبل، إذ إن حالهم من بعد انتهاء الموقعة تفيد انهم كانوا يريدون النصر رخاء سهلا من غير عقبة تحول يجب تذليلها، ومن غير شدة عنيفة يجب الصبر عليها
وكان القوم الذي فاتهم شرف الاشتراك في بدر قد أرادوا أن يذهبوا مع الرسول للمشاركة في غزوة أُحُد، ويوضح لهم الحق: أكنتم تظنون أن تمني المعارك وحده يحقق النصر، وهل كنتم تظنون أن كل معركة يدخلها المؤمنون لا بد أن تكون منتصرة؟ وإن كنتم تظنون أن المسألة هي نصر لمجرد التمني، فمعنى ذلك أنكم دخلتم إلى معسكر الإيمان من أجل الفأل واليُمن والنصر، ونحن نريد أن نعرف من الذي يدخل معسكر الإيمان وهو بائع روحه وهو مُحتسب حياته في سبيل الله. فلو أن الأمر يمر رخاء، لدخل كل واحد إلى معسكر الإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
دراسة سريعة لعلل الهزيمة في «أُحد»:
لقد مررنا في الآيات السابقة في هذا المقطع من الحديث على عبارات تكشف كلّ واحدة منها القناع عن واحدة من أسرار الهزيمة التي وقعت في معركة أُحد، وها نحن نشير إلى أهم وأبرز هذه العوامل التي تعاضدت فأدت إلى هذه النكسة المرة، والحاوية لكثير من العبر في نفس الوقت، وهذه العوامل هي:
ـ الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم مفاهيمه وتعاليمه، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق الانتصار، وأن الله لذلك سينزل عليهم نصره، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع الميادين، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية للانتصار من اختيار الخطة الصحيحة، وإعداد القوى اللازمة، واليقظة القتالية.
ـ عدم الانضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد المشددة للرماة بالبقاء في الثغر من الجبل، والذب عن ظهور المسلمين، وقد كان هذا هو العامل الحقيقي المؤثر للهزيمة.
ـ حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام إلى الانصراف إلى جمع الغنائم، وترك ملاحقة العدو، ووضع الأسلحة حتّى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم، وكان هذا هو العامل الثالث لتلك النكسة الدامية التي علمتهم أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان جميع هذه الأُمور والتوجه بالكامل إلى الهدف.
ـ الغرور الناشئ عن الانتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته، ويستصغرون شأنه.
هذه هي بعض نقاط الضعف التي ينبغي أن تزول في مياه هذه النكسة المؤلمة الساخنة، وتتبخر في أتونها.