ويختم هذه الإيقاعات بسؤال عن خلقتهم وإعادتهم ورزقهم من السماء والأرض ، مع التحدي والإفحام :
( أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، ومن يرزقكم من السماء والأرض ? أإله مع الله ? قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . .
وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها ، ولا يمكن أحدا تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته . وجوده لأن وجود هذا الكون ملجىء للإقرار بوجوده ؛ وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله . ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته ؛ فعليها آثار التقدير الواحد ، والتدبير الواحد ؛ وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد .
فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون . ولكن الإقرار ببدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق ملجىء كذلك للتصديق بإعادة الخلق ، ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء ، التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء . فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء . وهذا لا يتم في الحياة الدنيا . فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال . . أما لماذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء ? فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير . وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته . وسر الصنعة عند الصانع . وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا !
ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدىء الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال : أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? . . ( أإله مع الله ? ) . .
والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء . ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان ، والماء والهواء ، للطعام والشراب والاستنشاق ؛ ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات ؛ وكنوز البحر من طعام وزينة . ومنها القوى العجيبة من مغناطيسة وكهرباء ، وقوى أخرى لا يعلهما بعد إلا الله ؛ ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن .
وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا : الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات . ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم - وهو من السماء بمدلولها المعنوي ، الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة ؛ وهو معنى الارتفاع والاستعلاء .
وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة ، لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة فهو الذي يعيش عليه العباد . وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا . . وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة . فهو في الدنيا للحياة ، وهو في الآخرة للجزاء . . وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب .
والبدء والإعادة حقيقة والرزق من السماء والأرض حقيقة . ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق ، فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام :
( أإله مع الله ? ) . . ( قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . .
وإنهم ليعجزون عن البرهان ، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الأن . وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة . يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس ؛ فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب ؛ ويوقظ به الفظرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط ؛ ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان ، ويحجبها الجحود والكفران . . ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس ؛ والتي لا تقبل المراء الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد ، الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي ، وفشا فيما يسمى علم التوحيد ، أو علم الكلام !
هذا انتقال إلى الاستدلال بتصرف الله تعالى بالحياة الأولى والثانية وبإعطاء المدد لدوام الحياة الأولى مدة مقدرة . وفيه تذكير بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد . والاستفهام تقريري لأنهم لا ينكرون أنه يبدأ الخلق وأنه يرزقهم .
وأدمج في خلال الاستفهام قوله { ثم يعيده } لأن تسليم بدئه الخلق يلجئهم إلى فهم إمكان إعادة الخلق التي أحالوها . ولما كان إعادة الخلق محلّ جدل وكان إدماجها إيقاظاً وتذكيراً أعيد الاستفهام في الجملة التي عطفت عليه بقوله { ومن يرزقكم من السماء والأرض } ولأن الرزق مقارن لبدء الخلق فلو عطف على إعادة الخلق لتوهّم أنه يرزق الخلق بعد الإعادة فيحسبوا أن رزقهم في الدنيا من نعم آلهتهم .
وإذ قد كانوا منكرين للبعث ذُيّلت الآية بأمر التعجيز بالإتيان ببرهان على عدم البعث .
والبرهان : الحجة . وتقدم عند قوله تعالى { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم في آخر سورة النساء } ( 174 ) .
وإضافة البرهان إلى ضمير المخاطبين وهم المشركون مشير إلى أن البرهان المُعَجّزين عليه هو برهان عدم البعث ، أي إن كنتم صادقين فهاتوه لأن الصادق هو الذي قوله مطابق للواقع . والشيء الواقع لا يعدم دليلاً عليه .
وجُماع ما تقدم في هذه الآيات من قوله { آلله خير أما تشركون } [ النمل : 59 ] أنها أجملت الاستدلال على أحقية الله تعالى بالإلهية وحده ثم فصّلت ذلك بآيات { أمن خلق السموات والأرض إلى قوله قل هاتو برهانكم إن كنتم صادقين } [ النمل : 60 64 ] فابتدأت بدليل قريب من برهان المشاهدة وهو خلق السموات والأرض وما يأتي منهما من خير للناس . ودليل كيفية خلق الكرة الأرضية وما على وجهها منها ، وهذا ملحق بالمشاهدات .
وانتقلت إلى استدلال من قبيل الأصول الموضوعة وهو ما تمالأ عليه الناس من اللجأ إلى الله تعالى عند الاضطرار .
وانتقلت إلى الاستدلال عليهم بما مكّنهم من التصرف في الأرض إذ جعل البشر خلفاء في الأرض ، وسخر لهم التصرّف بوجوه التصاريف المعينة على هذه الخلافة ، وهي تكوين هدايتهم في البر والبحر . وذلك جامع لأصول تصرفات الخلافة المذكورة في الارتحال والتجارة والغزو .
وختم ذلك بكلمة جامعة لنعمتي الإيجاد والإمداد وفي مطاويها جوامع التمكن في الأرض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.