في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

1

من هذا الافتتاح القوي المؤثر ، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة ، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير ، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته : من التكافل في الأسرة والجماعة ، والرعاية لحقوق الضعاف فيها ، والصيانة لحق المرأة وكرامتها ، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها ، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع . .

ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد . وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعا في أموالهن . أما السفهاء الذي يخشى من اتلافهم للمال ، إذا هم تسلموه ، فلا يعطى لهم المال ، لأنه في حقيقته مال الجماعة ، ولها فيه قيام ومصلحة ، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه ، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة .

وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم . إنه كان حوبا كبيرا . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا . ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ، وارزقوهم فيها واكسوهم ، وقولوا لهم قولا معروفا . وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا . .

وتشي هذه التوصيات المشددة - كما قلنا - بما كان واقعا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة . والأيتام والنساء بصفة خاصة . . هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم - المقتطع أصلا من المجتمع الجاهلي - حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها ، وينشىء في الجماعة المسلمة تصورات جديدة ، ومشاعر جديدة ، وعرفا جديدا ، وملامح جديدة .

( وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، إنه كان حوبا كبيرا ) . .

أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم ، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد . كأن تأخذوا أرضهم الجيدة ، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة ، أو ماشيتهم ، أو أسهمهم ، أو نقودهم - وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة - أو أي نوع من أنواع المال ، فيه الجيد وفيه الرديء . . وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم ، كلها أو بعضها . . إن ذلك كله كان ذنبا كبيرا . والله يحذركم من هذا الذنب الكبير . .

فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة . فالخطاب يشي بأنه كان موجها إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور . وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية . . وفي كل جاهلية يقع مثل هذا . ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى . وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق ،

وشتى الحيل ، من أكثر الأوصياء ، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية ، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر . فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة ، ولا الرقابة الظاهرية . . كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد . . التقوى . . فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر ، فتصبح للتشريع قيمته وأثره . كما وقع بعد نزول هذه الآية ، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم ، ويعزلوا طعامه عن طعامهم ، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم ، الذي حذرهم الله منه وهو يقول : ( إنه كان حوبا كبيرا ) . .

إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات . ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات . . وهذه التقوى لا تجيش - تجاه التشريعات والتنظيمات - إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر ، الرقيبة على الضمائر . . عندئذ يحس الفرد - وهو يهم بانتهاك حرمة القانون - أنه يخون الله ، ويعصي أمره ، ويصادم إرادته ؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله . . وعندئذ تتزلزل أقدامه ، وترتجف مفاصله ، وتجيش تقواه . .

إن الله أعلم بعباده ، وأعرف بفطرتهم ، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي - وهو خلقهم - ومن ثم جعل التشريع تشريعه ، والقانون قانونه ، والنظام نظامه ، والمنهج منهجه ، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته . . وقد علم - سبحانه - أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب ، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب . وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد ، تحت تأثير البطش والإرهاب ، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة ، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة ، وكلما واتتهم الحيلة . مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام ، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم ، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله . وشيء هذا شأنه حقيق بأن تُراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك . وهذا ممَّا أشار إليه قوله تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء . . . } [ النساء : 1 ] .

والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي ، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّاً له ، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] وفي الحديث : « رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها » . واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة ، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يَتَائِم ، فوقع فيه قلب مَكَانِيّ فقالوا يَتَامِىءُ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفاً وحرّكت الميم بالفتح ، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جَمْع الجمع بأن جمع أوّلاً على يَتْمَى ، كما قالوا : أسير وأسْرى ، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة ، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسماً مثل أفيل وأفائل ، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفاً . وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم ، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي :

أأطْلالَ حُسْن في البِراق اليَتَائِم *** سَلام على أطلالِكُنّ القَدَائِم

واشتقاق اليتيم من الإنفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن ، وفعله من باب ضرب وهو قاصر ، وأطلقه العرب على من فُقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفرداً لا يجد من يدفع عنه ، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة ، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه . وقد ظهر ممّا راعَوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيماً إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه ، وذلك هو إطلاق الشريعة لا سم اليتيم ، والأصل عدم النقل .

وقيل : هو في اللغة من فُقد أبوه ، ولو كان كبيراً ، أو كان صغيراً وكَبر ، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحاً . وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغُلب في ضمير التذكير في قوله : { أموالهم } .

وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم ، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقاً عليه اسم اليتيم ، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله ، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم ، فلنا أن نؤوّل { آتوا } بغير معنى ادفعوا . وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال : نزلت هذه الآية في الذين لا يُورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية ، فيكون { آتوا } بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم ، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام ، لا تأكيد بعضها لبعض ، أو تقييد بعضها لبعض .

وقال صاحب « الكشاف » : « يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة » فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء ، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } . وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله : { وابتلوا اليتامى } [ النساء : 6 ] الآية . ولنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليُتْم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع ، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم ، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّداً بقوله الآتي : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] . ومن الناس من قال : اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه ، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي ، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفرداً وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوماً .

قيل : نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره ، فلمّا بلغ طلب ماله ، فمنعه عمّه ، فنزلت هذه الآية ، فرَدّ المال لابن أخيه ، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم } .

وقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب . والقول في تعدية فعل تبدّل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة فالبقرة ( 61 ) قال : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } وعلى ما تقرّر هناك يتعيّن أن يكون الخبيث هو المأخوذ ، والطيّب هو المتروك .

والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي ، وهما استعارتان ؛ فالخبيث المذموم أو الحرام ، والطيّب عكسه وهو الحلال : وتقدّم في قوله تعالى : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ) . فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام ، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيداً للأمر ، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر ، وهذا الوجه ينبىء عن جعل التبدّل مجازاً والخبيث والطيّب كذلك ، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال . وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي .

وقوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم ، فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها ، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول .

والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده ، ولا مطمع في إرجاعه ، وضمّن ( تأكلوا ) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي : لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم .

وليس قيد { إلى أموالكم } محطّ النهي ، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقاً سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن ، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر ، ذكر هذا القيد رعياً للغالب ، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء ؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين ، ولذلك روي : أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة ( 220 ) : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام ، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولاً للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ . وهما في فهم العرب نهيان ، وليس هو نهياً عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتاً بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة .

والحُوب بضمّ الحاء لغة الحجاز ، و بفتحها لغة تميم ، وقيل : هي حبشية ، ومعناه الإثم ، والجملة تعليل للنهي : لموقع إنّ منها ، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم . ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكِّد الخبر بكان الزائدة .