في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

15

والآن نأتي إلى قصة سليمان مع الهدهد وملكة سبأ وهي مقطعة إلى ستة مشاهد ، بينها فجوات فنية ، تدرك من المشاهد المعروضة ، وتكمل جمال العرض الفني في القصة ، وتتخللها تعقيبات على بعض المشاهد تحمل التوجيه الوجداني المقصود بعرضها في السورة ؛ وتحقق العبرة التي من أجلها يساق القصص في القرآن الكريم . وتتناسق التعقيبات مع المشاهد والفجوات تنسيقا بديعا ، من الناحيتين : الفنية الجمالية ، والدينية الوجدانية .

ولما كان افتتاح الحديث عن سليمان قد تضمن الإشارة إلى الجن والإنس والطير ، كما تضمن الإشارة إلى نعمة العلم ، فإن القصة تحتوي دورا لكل من الجن والإنس والطير . ويبرز فيها دور العلم كذلك . وكأنما كانت تلك المقدمة إشارة إلى أصحاب الأدوار الرئيسية في القصة . . وهذه سمة فنية دقيقة في القصص القرآني .

كذلك تتضح السمات الشخصية والمعالم المميزة لشخصيات القصة : شخصية سليمان ، وشخصية الملكة ، وشخصية الهدهد ، وشخصية حاشية الملكة . كما تعرض الانفعالات النفسية لهذه الشخصيات في شتى مشاهد القصة ومواقفها .

يبدأ المشهد الأول في مشهد العرض العسكري العام لسليمان وجنوده ، بعدما أتوا على وادي النمل ، وبعد مقالة النملة ، وتوجه سليمان إلى ربه بالشكر والدعاء والإنابة :

وتفقد الطير فقال : مالي لا أرى الهدهد ? أم كان من الغائبين ? لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ، أو ليأتيني بسلطان مبين . .

فها هو ذا الملك النبي . سليمان . في موكبه الفخم الضخم . ها هو ذا يتفقد الطير فلا يجد الهدهد . ونفهم من هذا أنه هدهد خاص ، معين في نوبته في هذا العرض . وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد . كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته : سمة اليقظة والدقة والحزم . فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير ، الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث .

وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة : ( ما لي لا أرى الهدهد ? أم كان من الغائبين ? ) .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

اختلف الناس في معنى «تفقده الطير » ، فقالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم بكل جزء منها .

قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير ، وقالت فرقة : بل «تفقد الطير » لأن الشمس دخلت من موضع { الهدهد } حين غاب ، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من أين دخلت الشمس ، وقال عبد الله بن سلام إنما طلب { الهدهد } لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كَم هو من وجه الأرض ، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن { الهدهد } كان يرى باطن الأرض وظاهرها كانت تشف له وكان يخبر سليمان بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ شاة قاله ابن عباس فيما روي عن أبي سلام وغيره ، وقال في كتاب النقاش كان { الهدهد } مهندساً ، وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يقول هذا فقال له : قف يا وقاف كيف يرى { الهدهد } باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه . فقال له ابن عباس رضي الله عنه : إذا جاء القدر عمي البصر . وقال وهب بن منبه : كانت الطير تنتاب{[9005]} سليمان كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة ففقد { الهدهد } ، وقوله { ما لي لا أرى } إنما مقصد الكلام { الهدهد } غاب لكنه أخذ اللام عن مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله { ما لي } ، ناب مناب الألف التي تحتاجها أم{[9006]} .


[9005]:أي: تقصده مرة بعد أخرى، يقال: انتاب صديقه: قصده مرة بعد أخرى، وفلان ينتابها، والسباع تنتاب المنهل، (المعجم الوسيط).
[9006]:معنى هذا أن [أم] متصلة، وأن الاستفهام الذي في [مالي] ناب مناب ألف الاستفهام، ويكون المعنى عند ابن عطية: "أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد أم كان ممن غاب من قبل ولم أشعر بغيبته؟".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

صيغة التفعُّل تدل على التكلف ، والتكلف : الطلب . واشتقاق { تفقّد } من الفَقْد يقتضي أن { تفقّد } بمعنى طلب الفَقد . ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد ، أي معرفة ما أحدثه الفقد في شيء ، فالتفقد : البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند لأن كثيراً من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل ، ومنه الهُدهد أيضاً لمعرفة الماء ، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفد الزاد . وللطير جنود يقومون بشؤونها . وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها . والمعنى : تفقَّد الطيرَ في جملة ما تفقده ، فقال لمن يلون أمر الطير : { ما لي لا أرى الهدهد } .

ومن واجبات ولاة الأمور تفقد أحوال الرعية وتفقد العمال ونحوهم بنفسه كما فعل عمر في خروجه إلى الشام سنة سبع عشرة هجرية ، أو بمن يكل إليه ذلك ، فقد جعل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري يتفقد العمال .

و { الهُدهد } : نوع من الطير وهو ما يقرقر ، وفي رائحته نتن وفوق رأسه قَزَعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ، يرى الماء من بُعد ويحس به في باطن الأرض ، فإذا رَفرف على موضع عُلم أن به ماء ، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان . قال الجاحظ : يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها .

وقوله : { ما لي لا أرى الهدهد } استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد ، ف { ما } استفهام . واللام من قوله : { لي } للاختصاص . والمجرور باللام خبر عن { ما } الاستفهامية . والتقدير : ما الأمر الذي كان لي .

وجملة : { لا أرى الهدهد } في موضع الحال من ياء المتكلم المجرورة باللام ، فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال ، أي عن المانع لرؤية الهدهد . والكلام موجه إلى خفرائه ، يعني : أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد ؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد .

و { أم } منقطعة لأنها لم تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين . و { أم } لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها ، فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر . والتقدير : بل أكان من الغائبين ؟ وليست { أم } المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام .

وصاحب « المفتاح » مثَّل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض . ولما كان قول سليمان هذا صادراً بعد تقصّيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال : { لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه } لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه ، وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحاً له إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداماً له لئلا يلقِّن بالفساد غيرَه فيدخل الفساد في الجند وليكون عقابه نكالاً لغيره .

فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود . ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عُيّن له من عمل أو تغيب عنه .

وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله . قال القرافي في « تنقيح الفصول » في آخر فصوله : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهرّ الموذي هل يجوز ؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل اه . قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا تُرك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله . قال القرافي : وقال أبو حنيفة : إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة " اه . وقال الشيخ ابن أبي زيد في « الرسالة » : ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يُقدَر على تركها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَتَفَقّدَ" سليمان "الطيْرَ فَقالَ ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ"... إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير...

وقوله: "فَقالَ مالِيَ لا أرَى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ "يعني بقوله "ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ" أخطأه بصري فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

تَطَلّبَه فَلَمَّا لم يَرَه تَعَرَّف ما سبب تأخره وغيبته. ودلَّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته، حيث لم تَخْفَ عليه غيبةُ طيرٍ هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعةً واحدةً. وهذا أحسن ما قيل. ثم تَهَدَّدَه إن لم يكن له عُذْرٌ بعذاب شديدٍ، وذلك يدلُّ على كمال سياسته وعَدْلِه في مملكته.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَمْ} هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال: {مَالِيَ لاَ أَرَى} على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له..

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ من سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ، فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ؟ وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ قَالَ: "لَوْ أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ!

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وتفقد الطير} إذ كانت أحد أركان جنده ففقد الهدهد {فقال ما لي} أي أيّ شيء حصل لي حال كوني {لا أرى الهدهد} أي أهو حاضر، وستره عني ساتر، وقوله: {أم كان من الغائبين} كما أنه يدل على ما قدرته يدل على أنه فقد جماعة من الجند، فتحقق غيبتهم وشك في غيبته، وذكره له دونهم يدل على عظيم منزلة الهدهد فيما له عنده من النفع، وأن غيبة غيره كانت بأمره عليه السلام.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ما لي لا أرى الهدهد} استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد، ف {ما} استفهام... والتقدير: ما الأمر الذي كان لي. والكلام موجه إلى خفرائه، يعني: أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من حياة سليمان (عليه السلام) المدهشة، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ. فيقول أوّلا: (وتفقّد الطير). وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء، حتى لو كان طائراً واحداً...

.وعلى أيّة حال، فان حكومة منظمة ومقتدرة يجب أن تجعل كل شيء يجري داخل إطار الدولة تحت نظرها ونفوذها.. حتى وجود طائر واحد وغيابه، لابدّ أن لا يخفى عن علمها و نظرها... وهذا درس كبير لمن أراد التدبير.