السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

ثم إنّ سليمان عليه السلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك . { وتفقد الطير } أي : طلبها وبحث عنها ، والتفقد طلب ما فقد ، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير { فقال ما لي لا أرى الهدهد } أي : أهو حاضر { أم كان من الغائبين } أم منقطعة ، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره ، فقال مالي لا أراه ، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته .

وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء : أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه أنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم ، قالوا فبأي : دين يدين يا نبيّ الله ؟ قال بدين الحنيفية : فطوبى لمن أدركه وآمن به ، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله ؟ قال : مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل ، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحاً وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى ، فلما نزل قال الهدهد : إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يميناً وشمالاً فرأى بستاناً لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه ، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير ، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد ؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان ؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمن أين أنت ؟ قال أنا من هذه البلاد ، قال ومن ملكها ؟ قال امرأة يقال لها بلقيس ، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل ، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء ، قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وغاب إلى وقت العصر ، وكان نزول سليمان على غير ماء ، قال ابن عباس : وكان الهدهد دليل سليمان على الماء ، وكان يعرف الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف بعده وقربه فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء ، قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : انظر ما تقول : إن الصبيّ منا يصنع الفخ ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه ؟ فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال بين البصر ، وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر ، قال القائل :

هي المقادير فدعني والقدر *** إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

إذا أراد الله أمراً بامرئ *** وكان ذا عقل وسمع وبصر

يعبر الجهل فيعمى قلبه *** وسمعه وعقله ثم البصر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه *** ردّ عليه عقله ليعتبر

لا تقل لما جرى كيف جرى *** كل شيء بقضاء وقدر