اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطير } الآية «تَفَقَّدَ الطَّيْرَ » : طلبها وبحث عنها ، والتفقد طلب ما فقد ، والمعنى طلب ما فقد من الطير ، واختلفوا فيما تفقده من أجله ، فقيل : لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها{[38601]} ، وقيل : لأن هندسة الماء كانت لديه ، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض{[38602]} . قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف ، انظر ما يقول : إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ ، حتى يقع في عنقه ، فقال له ابن عباس : ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر{[38603]} ، وهذا القول فيه نظر ، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد ، فإنهم سكانها ، وقيل : لأنه كان يظله من الشمس{[38604]} .

قوله : { مَالِيَ{[38605]} لاَ أَرَى الهدهد } ، هذا استفهام توقيف{[38606]} ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل : ما للهدهد لا أراه{[38607]} ؟ إذ المعنى قوي دونه ، والهدهد معروف ، وتصغيره على هديهد ، وهو القياس ، وزعم بعض النحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفاً ، فيقال : هداهد ، وأنشد :

3945 - كَهُدَاهِدٍ كَسَرَ الرُّمَاةُ جَنَاحَهُ *** يَدْعُوا بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ هَدِيلاً{[38608]}

كما قالوا : دُوَابَّة وشُوَابَّة ، في : دُوَيْبَة وشُوَيْبَة ، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت{[38609]} . تزعم العرب أن جارحاً في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة تسمى الهديل ، قالوا : فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل{[38610]} .

قوله : «أم كان » ، هذه «أم » المنقطعة ، وتقدم الكلام فيها ، وقال ابن عطية : قوله { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد } مقصد الكلام : الهدهد غاب ، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف{[38611]} عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله «مَالِيَ » ناب مناب الألف التي تحتاجها «أم »{[38612]} ، قال أبو حيان : فظاهر كلامه أن «أم » متصلة ، وأن الاستفهام الذي في قوله : «مالي » ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه : أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ، ولم أشعر بغيبته ؟{[38613]} .

قال شهاب الدين : ولا يظن بأبي محمد{[38614]} ذلك ، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام{[38615]} .


[38601]:انظر الفخر الرازي 24/189.
[38602]:انظر البغوي 6/269.
[38603]:المرجع السابق.
[38604]:انظر الفخر الرازي 24/189.
[38605]:لي: سقط من ب.
[38606]:يريد استفهاما حقيقيا يقصد منه السؤال عما يسأل عنه.
[38607]:انظر القرطبي 13/179.
[38608]:البيت من بحر الكامل، قاله النميري، وهو في الخصائص 2/95، المفضليات (457) المقرب (436)، جمهرة القرشي (175)، اللسان (هدد، هدل)، البحر المحيط 7/51، الهديل المراد به هنا صوت الهدهد. والشاهد فيه أن (هداهد) تصغير (هدهد) بقلب ياء التصغير ألفا.
[38609]:انظر المقرب (436-437)، اللسان (هدد).
[38610]:انظر اللسان (هدل).
[38611]:في ب: الوقف.
[38612]:تفسير ابن عطية 11/189.
[38613]:البحر المحيط 7/64.
[38614]:تفسير ابن عطية 11/189.
[38615]:الدر المصون 5/185.