الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

قوله : { مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ } : هذا استفهامُ توقيفٍ ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاء القَلْب ، وأنَّ الأصلَ : ما للهدهد لا أراه ؟ إذ المعنى قويٌّ دونه . والهُدْهُدُ معروفٌ . وتصغيره على هُدَيْهِد وهو القياس . وزعم بعضُ النحويين أنه تُقْلَبُ ياءُ تصغيره ألفاً ، فيقال : هُداهِد . وأنشد :

كهُداهِدٍ كَسَرَ الرماةُ جناحَه *** يَدْعو بقارعةِ الطريق هَدِيْلا

كما قالوا دُوابَّة وشُوابَّة ، في : دُوَيْبَّة وشُوَيْبَّة . ورَدَّه بعضُهم : بأن الهُداهِد الحَمامُ ، الكثيرُ ترجيعِ الصوتِ . تزعُمُ العربُ أن جارحاً في زمان الطُّوفانِ ، اخْتَطَفَ فرخَ حمامةٍ تسمَّى الهديل . قالوا : فكلُّ حمامةٍ تبكي فإنما تبكي على الهديل .

قوله : { أَمْ كَانَ } هذه " أم " المنقطعةُ وقد تقدَّم الكلامُ فيها . وقال ابن عطية : " قوله مالي لا أرى الهدهد " مَقْصَدُ الكلامِ : الهُدْهُدُ غاب ، ولكنه أَخَذَ اللازمَ عن مُغَيَّبِه : وهو أَنْ لا يَراه ، فاستفهم على جهةِ التوقُّفِ عن اللازمِ ، وهذا ضَرْبٌ من الإِيجاز . والاستفهامُ الذي في قوله : " مالي " نابَ منابَ الألفِ التي تحتاجُها " أم " . قال الشيخ : " فظاهرُ كلامِه أنَّ " أم " متصلةٌ ، وأن الاستفهامَ الذي في قوله " مالي " ناب منابَ ألفِ الاستفهام . فمعناه : أغاب عني الآن فلم أَرَهُ حال التفقُّد أم كان مِمَّنْ غابَ قبلُ ، ولم أَشْعُرْ بغَيْبَتِه ؟ " . قلت : لا يُظَّنُّ بأبي محمد ذلك ، فإنه لا يَجْهَلُ أنَّ شَرْطَ المتصلةِ تَقَدُّمُ همزةِ الاستفهامِ أو التسويةِ لا مطلقُ الاستفهامِ .