( وقال الذين لا يرجون لقاءنا : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ! لقد استكبروا في أنفسهم ، وعتوا عتوا كبيرا . يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ، ويقولون : حجرا محجورا . وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا . أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . ويوم تشقق السماء بالغمامونزل الملائكة تنزيلا . الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا . ويوم يعض الظالم على يديه ، يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتا ! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا . لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولا ) . .
إن المشركين لا يرجون لقاء الله ، أي لا ينتظرون هذا اللقاء ، ولا يحسبون حسابه ، ولا يقيمون حياتهم وتصرفاتهم على أساسه . ومن ثم لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله ، فتنطلق ألسنتهم بكلمات وتصورات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله .
( وقال الذين لا يرجون لقاءنا : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ! ) . .
فقد كانوا يستبعدون أن يكون الرسول بشرا . وكانوا يطلبون ، لكي يؤمنوا بالعقيدة التي يدعوهم إليها ، أن تنزل عليهم الملائكة تشهد بها ، أو أن يروا الله سبحانه وتعالى فيصدقوا . . وهو تطاول على مقام الله سبحانه . تطاول الجاهل المستهتر الذي لا يحس جلال الله في نفسه ، ولا يقدر الله حق قدره . فمن هم حتى يتطاولوا هذا التطاول ? من هم إلى جوار الله العظيم الجبار المتكبر ? من هم وهم في ملك الله وخلقه كالذرة التائهة الصغيرة ، إلا أن يربطوا أنفسهم بالله عن طريق الإيمان فيستمدوا منه قيمتهم . . ومن ثم يرد عليهم في نفس الآية قبل أن تنتهي ، يكشف عن منبع هذا التطاول :
( لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) . .
لقد عظم شأنهم في نظر أنفسهم ، فاستكبروا وطغوا طغيانا كبيرا . لقد تضخم شعورهم بأنفسهم حتى شغلهم عن تقدير القيم الحقيقية ووزنها وزنا صحيحا . لقد عادوا ما يحسون إلا أنفسهم وقد كبرت في أعينهم وتضخمت وعظمت ، حتى ليحسبونهم شيئا عظيما في هذا الكون يستحق أن يظهر لهم الله جل جلاله ليؤمنوا ويصدقوا !
ثم أخبر عن مقالة الكفار { لولا أنزل علينا الملائكة } الآية ، وقوله { يرجون } قال أبو عبيدة وقوم معناه يخافون والشاهد لذلك قول الهذلي : [ الطويل ]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . . . وخالفها في بيت نوب عوامل{[8805]}
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابه لأن خوف لقاء الله تعالى مقترن أبداً برجائه ، فإذا نفي الرجاء عن أحد فإنما أخبر عنه أنه مكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء ، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء الله تعالى ، وأما بيت الشعر المذكور فمعناه عندي لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله ، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا أنفسهم وسألوا ما ليسوا به بأهل ، { وعتوا } ، معناه صعبوا عن الحق واشتدوا ، ويقال عتو وعتي على الأصل ، وعتي معلول باستثقال الضم على الواو فقلبت ياء ثم كسر ما قبلها طلب التناسب{[8806]} .
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسولَ عليه الصلاة والسلام ، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب { الذين لا يَرجُون لقاءنا } وعنون عليهم في المقالات السابقة ب { الذين كفروا } [ الفرقان : 4 ] وب { الظالمون } [ الفرقان : 8 ] لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض ، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكةِ ، وطَلَبوا رؤية الله في الدنيا ، ونزولَ الملائكة عليهم في الدنيا ، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة ، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم .
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل ، فمن أجل ذلك أيضاً جعل قولهم ذلك طريقاً لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله } في سورة يونس ( 15 ) .
و { لولا } حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة ، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به ، يعنون أنه إن كان صادقاً فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم .
ومعنى : { لا يرجون } لا يظنون ظنّاً قريباً ، أي يَعُدّون لقاء الله محالاً . ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ، ولذلك عقب بقوله : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل .
والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم . والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كِلاب أو بني نُمير أنشده ثعلب في « مجالسه » والقالي في « أماليه » :
أَلاَ يَا سَنا برقٍ على قُلَلِ الحِمى *** لَهِنَّك مِنْ برقٍ علي كريمُ
فإن قوله : من برق ، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب .
والاستكبار : مبالغة في التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب .
و { فِي } للظرفية المجازية ؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها ، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى : { وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
ويجوز أن تكون { في } للتعليل كما في الحديث " دخلتتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها " الحديث ، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم . وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك ؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية .
والعُتوّ : تجاوز الحد في الظلم ، وتقدم في قوله تعالى : { وعَتوا عن أمر ربّهم } في الأعراف ( 77 ) . وإنما كان هذا ظلماً لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية .
وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.