فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية :
( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ) . .
فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويخذلون ! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت ، وأنه قد ذهب الخوف ، وجاء الأمان !
( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ) . .
يا للسخرية ! ويا للتصوير الزري ! ويا للصورة المضحكة ! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام . ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية ، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير . ولا يعلمون - حتى - ما يجري عند أهلها . إنما هم يجهلونه ، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب ! مبالغة في البعد والانفصال ، والنجاة من الأهوال !
يتمنون هذه الأمنيات المضحكة ، مع أنهم قاعدون ، بعيدون عن المعركة ، لا يتعرضون لها مباشرة ؛ إنما هو الخوف من بعيد ! والفزع والهلع من بعيد ! ( ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) . .
وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة . صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة ؛ والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل . بنفس الملامح ، وذات السمات . . ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج ، والسخرية منه ، والابتعاد عنه ، وهو انه على الله وعلى الناس .
الضمير في { يحسبون } للمنافقين ، والمعنى أنهم من الجزع والفزع بحيث رحل { الأحزاب } وهزمهم الله تعالى وهؤلاء يظنون أنها من الخدع وأنهم { لم يذهبوا } بل يريدون الكرة إلى غلب المدينة ، ثم أخبر تعالى عن معتقد هؤلاء المنافقين أن ودهم لو أتى الأحزاب وحاصروا المدينة أن يكونوا هم قد خرجوا إلى البادية في جملة { الأعراب } وهم أهل العمود والرحيل من قطر إلى قطر ، ومن كان من العرب مقيماً بأرض مستوطناً فلا يمسون أعراباً وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف «لو أنهم بُدّى في الأعراب » شديدة الدال منونة وهو جمع باد كغاز وغزى ، وروي عن ابن عباس «لو أنهم بدوا » ، وقرأ أهل مكة ونافع وابن كثير والحسن «يسألون » أي من ورد عليهم ، وقرأ أبو عمرو وعاصم{[9479]} والأعمش «يسلون » خفيفة بغير همز على نحو قوله { سل بني إسرائيل }{[9480]} [ البقرة : 211 ] وقرأ الجحدري وقتادة والحسن بخلاف عنه «يساءلون » أي يسأل بعضهم بعضاً . قال{[9481]} الجحدري «يتساءلون » ، ثم سلى الله تعالى عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما { قاتلوا إلا قتالاً قليلاً } لا نفع له ، قال الثعلبي هو قليل من حيث هو رياء من غير حسبة ولو كان الله لكان كثيراً .
لما ذُكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثُني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم ، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدّون في ملام المسلمين ويسلِقُونَهم بألسنة حِدَادٍ على أن تَعرضوا للعدوّ الكثير ، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم ، وليس للمنافقين وساطة في ذلك . ولعلهم كانوا لا يودّون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة ، فتكون جملة { يحسبون } استئنافاً ابتدائياً مرتبطاً بقوله { اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً } [ الأحزاب : 9 ] الخ . . . جاء عوْداً على بدْءٍ بمناسبة ذكر أحوال المنافقين ، فإن قوله : { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم ، أي : وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون . ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازاً بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاّء لليهود فكان سلقُهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفَّضوا من شدتهم على المسلمين ، فتكون جملة { يحسبون } حالاً من ضمير الرفع في { سلقوكم } [ الأحزاب : 19 ] أي : فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا .
وأما قوله { وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } فهو وصف لِجبن المنافقين ، أي : لو جاء الأحزاب كَرَّة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلَمُ وغيرهم ، قال تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب } [ التوبة : 120 ] الآية .
والوُدّ هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للودّ .
والبادي : ساكن البادية . وتقدم عند قوله تعالى { سواءٌ العاكفُ فيه والبادِ } في سورة الحج ( 25 ) .
والأعراب : هم سكان البوادي بالأصالة ، أي : يودُّوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً } ، أي : فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً .
و { لو } حرف يفيد التمني بعد فعل ودّ ونحوه . أنشد الجاحظ وعبد القاهر :
يَودُّون لو خاطوا عليك جلودهم *** ولا تَمنع الموت النفوسُ الشحائح
وتقدم عند قوله تعالى { يودّ أحدُهم لو يُعَمَّر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) .
والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرّهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة .
ومعنى { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً } أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقُوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالاً قليلاً ، أي : ضعيفاً لا يُؤْبَه به ، وإنما هو تعلة ورياء ، وتقدم نظيره آنفاً .
والأنباء : جمع نبأ وهو : الخبر المهم ، وتقدم عند قوله تعالى { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة ( الأنعام 34 ) وقرأ الجمهور يسألون } بسكون السين فهمزة مضارع سأل . وقرأ رويس عن يعقوب { يَسَّاءلون } بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة مضارع تساءل ، وأصله : يتساءلون أدغمت التاء في السين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.