في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَا فِيهَا غَوۡلٞ وَلَا هُمۡ عَنۡهَا يُنزَفُونَ} (47)

وعلى ذكر عباد الله المخلصين - الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم - يعرض صفحة هؤلاء العباد المخلصين في يوم الدين . ويعود العرض متبعاً نسق الإخبار المصور للنعيم الذي يتقلبون في أعطافه - في مقابل ذلك العذاب الأليم للمكذبين - :

( أولئك لهم رزق معلوم . فواكه وهم مكرمون . في جنات النعيم . على سرر متقابلين . يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون . وعندهم قاصرات الطرف عين . كأنهن بيض مكنون . . . ) .

وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم . نعيم تستمتع به النفس ويستمتع به الحس . وتجد فيه كل نفس ما تشتهيه من ألوان النعيم .

فهم - أولاً - عباد الله المخلصون . وفي هذه الإشارة أعلى مراتب التكريم . وهم - ثانياً -( مكرمون )في الملأ الأعلى . وياله من تكريم ! ثم إن لهم( فواكه )وهم على ( سرر متقابلين ) . وهم يخدمون فلا يتكلفون شيئاً من الجهد في دار الراحة والرضوان والنعيم : ( يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) . . وتلك أجمل أوصاف الشراب ، التي تحقق لذة الشراب ، وتنفي عقابيله . فلا خمار يصدع الرؤوس ، ولا منع ولا انقطاع يذهب بلذة المتاع !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَا فِيهَا غَوۡلٞ وَلَا هُمۡ عَنۡهَا يُنزَفُونَ} (47)

وقوله { ولا فيها غول } ، لم تعمل { لا } لأن الظرف حال بينها وبين ما شأن التبرية أن تعمل فيه و » الغول «اسم عام في الأذى ، يقال غاله كذا إذا أضره في خفاء ، ومنه الغيلة في القتل وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الرضاع » لقد هممت أن أنهى عن الغيلة{[9848]} «ومن اللفظة قول الشاعر : [ الطويل ]

مضى أولونا ناعمين بعيشهم . . . جميعاً وغالتني بمكة غول{[9849]}

أي عاقتني عوائق ، فهذا معنى من معاني الغول ، ومنه قول العرب ، في مثل من الأمثال ، < ماله عمل ما غاله > يضرب للرجل الحديد الذي لا يقوم لأمر إلا أغنى فيه ، أو الرجل يدعى له بأن يؤذي ما آذاه ، وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد في الآية » الغول «وجع في البطن ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : هو صداع في الرأس .

قال القاضي أبو محمد : والاسم أعم من هذا كله فنفى عن خمر الجنة جميع أنواع الأذى إذا هي موجودة في خمر الدنيا ، نحا إلى هذا العموم سعيد بن جبير ، ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]

وما زالت الخمر تغتالنا . . . وتذهب بالأول الأول{[9850]}

أي تؤذينا بذهاب العقل ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «ينزَفون » بفتح الزاي وكذلك في سورة الواقعة{[9851]} من قوله «نزف الرجل إذا سكر ونزفته الخمر » ، والنزيف السكران ومنه قول الشاعر [ جميل بن معمر ] : [ الكامل ]

فلثمت فاها آخذاً بقرونها . . . شرب النزيف لبرد ماء الحشرج{[9852]}

وبذهاب العقل فسر ابن عباس وقتادة { ينزفون } ، وقرأ حمزة والكسائي «ينزِفون » بكسر الزاي وكذلك في الواقعة من أنزف ينزف ويقال أنزف بمعنيين أحدها سكر ومنه قال الأبيرد الرياحي . [ الطويل ]

لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ . . . لبيس الندامى أنتمُ آل أبجرا{[9853]}

والثاني : نزف شرابه{[9854]} يقال أنزف الرجل إذا تمّ شرابه فهذا كله منفي عن أهل الجنة ، وقرأ عاصم هنا بفتح الزاي وفي الواقعة بكسر الزاي ، وقرأ ابن أبي إسحاق «يَنزِفون » بفتح الياء وكسر الزاي .


[9848]:أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن جدامة بنت وهب، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بأنه صحيح، ولفظه كما ذكره السيوطي:(لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم).وقد فسر ابن الأثير معنى الغيلة في كتابه(النهاية في غريب الحديث والأثر) فقال:"الغيلة بالكسر: الاسم من الغيل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، واللبن الذي يشربه الولد يقال له الغيل".
[9849]:يتألم من حياته، ويقارن ما يلاقيه من العوائق بما كان ينعم به آباؤه فيقول: مضوا جميعا بحياتهم الناعمة وعيشتهم الهادئة، وبقيت أنا مع العوائق والمصاعب التي أعاني منها.
[9850]:البيت في اللسان(غول) غير منسوب، وقد استشهد به أبو عبيدة في (مجاز القرآن)، والرواية فيه وفي الطبري:(الكأس) بدلا من (الخمر)، قال أبو عبيدة:"{لا فيها غول}، مجازه: ليس فيها غول، والغول أن تغتال عقولهم"، وقال الطبري:"وهو أن تغتال عقولهم، يقول: هذه الخمرة لا تذهب بعقول شاربيها، كما تذهب بها خمور أهل الدنيا، ثم ذكر البيت". وشرح البيت في اللسان فقال:"أي: توصل إلينا شرا وتعدمنا عقولنا" فكلهم أجمعوا على أن المعنى هو اغتيال العقل.
[9851]:في قوله تعالى في الآية(19):{لا يصدعون عنها ولا ينزفون}.
[9852]:البيت مختلف في نسبته، قيل: هو لعمر بن أبي ربيعة، وهو من أبيات يقول فيها: قالت: وعيش أبي وحرمة إخوتي لأنبِّهنَّ الحي إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرج فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وقال ابن بري: البيت لجميل بن معمر، وليس لعمر بن أبي ربيعة، والقرن: الذؤابة، وخص بعضهم به ذؤابة المرأة وضفيرتها، والجمع: قرون، والنزيف: السكران، وقيل: هو المحموم الذي منع من الماء، والحشرج: الكوز الرقيق النقي، وقيل: هو الماء العذب من ماء الحسي. ولثمت فاها: قبلته، ونصب الشاعر(شرب) على المصدر المشبه به، فكأنه قال: شربت ريقها كشرب النزيف للماء العذب البارد.
[9853]:البيت في اللسان(نزف)، وفي (مجاز القرآن) لأبي عبيدة، وقد نسبه الجوهري للأبيرد، وبعده يقول مخاطبا آل أبجر: شربتم ومدرتم وكان أبوكم كذاكم إذا ما يشرب الكأس مدرا وهو أبجر بن جابر العجلي، وكان نصرانيا، وأنزف: سكر وذهب عقله، ومدّر: سلح عن نفسه، يقول: إنكم يا آل أبجر بئس الندامى سواء شربتم حتى تذهب عقلكم أو كنتم في حال الإفاقة والصحوة، وشأنكم كأبيكم إذا ما شربتم سلحتم على أنفسكم. وقد استشهد القرطبي في تفسيره بالبيت ونسبه للحطيئة.
[9854]:لعله يريد: فني شرابه ولم يجد غيره قريبا منه، وقد قال الفراء:"وأصحاب عبد الله يقرءون:(يُنزفون)، وله معنيان: يقال: قد أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وأنزف: إذا ذهب عقله، فهذان وجهان".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَا فِيهَا غَوۡلٞ وَلَا هُمۡ عَنۡهَا يُنزَفُونَ} (47)

وجملة { لا فِيها غَوْلٌ } صفة رابعة لكأس باعتبار إطلاقه على الخمر .

والغَول ، بفتح الغيْن : ما يعتري شارب الخمر من الصداع والألم ، اشتق من الغَول مصدرِ غاله ، إذا أهلكه . وهذا في معنى قوله تعالى : { لا يصدعون عنها } [ الواقعة : 19 ] .

وتقديم الظرف المسند على المسند إليه لإِفادة التخصيص ، أي هو منتففٍ عن خمر الجنة فقط دونَ ما يعرف من خمر الدنيا ، فهو قصر قلب . ووقوع { غَوْلٌ } وهو نكرة بعد { لا } النافية أفاد انتفاء هذا الجنس من أصله ، ووجب رفعه لوقوع الفصل بينه وبين حرف النفي بالخبر .

وجملة { ولا هم عنها يُنزفون } معطوفة على جملة { لا فيها غَوْلٌ } .

وقدّم المسند عليه على المسند ، والمسند فعل ليفيد التقديم تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي ، أي بخلاف شاربي الخمر من أهل الدنيا .

و { يُنزَفُونَ } مبني للمجهول في قراءة الجمهور يقال : نُزف الشارب ، بالبناء للمجهول إذا كان مجرداً ( ولا يُبنى للمعلوم ) فهو منزوف ونزيف ، شبهوا عقل الشارب بالدم يقال : نُزف دمُ الجريح ، أي أُفرغ . وأصله من : نَزفَ الرجُلُ مَاءَ البئر متعدياً ، إذا نَزحه ولم يُبق منه شيئاً . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { يُنزِفُونَ } بضم اليَاء وكسر الزاي من أُنزف الشاربُ ، إذا ذهب عقله ، أي صار ذَا نَزَف ، فالهمزة للصيرورة لا للتعدية .