في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ، ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا ، وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله ، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .

( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . . . )

وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم ، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة ، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية ، ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة ، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة ، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم ، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .

( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، إلا قليلا منهم . . . ) . .

وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ، ورفع عنهم الاضطهاد ، وعاملهم بالحسنى ، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة ، ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد ، وتآمروا مع كل عدو لهم ، حتى تحين الفرصة ، فينقضوا عليهم ، قساة جفاة لا يرحمونهم ، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه ، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .

والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة ، تعبير طريف :

( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) . .

الفعلة الخائنة ، والنية الخائنة ، والكلمة الخائنة ، والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . . ( خائنة ) . . لتبقى الخيانة وحدها مجردة ، تملأ الجو ، وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم ، وهذا هو جوهر موقفهم ، مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .

إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها ، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ؛ وتسمع توجيهاته ؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها ، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ؛ وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة ، وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .

ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه ، حين نقضوا ميثاقهم مع الله ، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله ، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ، ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير ، وسارت في طريق غير الطريق ، نزع الله منها قيادة البشرية ؛ وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ؛ وحتى تستمسك بعهدها ، وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .

ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية :

( فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين ) . .

والعفو عن قبائحهم إحسان ، والصفح عن خيانتهم إحسان . .

ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

يحتمل أن تكون «ما » زائدة والتقدير «فبنقضهم »{[4489]} ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة ، التقدير : فبفعل هو نقضهم للميثاق ، وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا ، و { لعناهم } معناه بعدناهم من الخير أجمعه ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية » بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية » دون ألف ، وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم }{[4490]} وقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }{[4491]} والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ، ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية » ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :

لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف{[4492]}

ومنه قول الآخر :

فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئىًء منها قسي وزائف{[4493]}

قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { يحرفون الكلم } فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارىء يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم .

قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }{[4494]} يقتضي التبديل . ولا شك أنهم فعلوا الأمرين . وقرأ جمهور الناس «الكَلِم » بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام » بالألف وقرأ أبو رجاء . «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع { على خائنة منهم } وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى { خائنة } في هذا الموضع فقالت فرقة { خائنة } مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : { فأهلكوا بالطاغية }{[4495]} فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة ُمغَّل الاصبع{[4496]}

وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم » ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية{[4497]} وباقي الآية وعد على الإحسان .


[4489]:-قال قتادة وسائر أهل العلم كما ذكره القرطبي، وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى: تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد، كما قال: * لشيء ما ُيَسَّود من يسود*
[4490]:- من الآية (22) من سورة (الزمر).
[4491]:- من الآية (74) من سورة (البقرة).
[4492]:- نسبه في (اللسان) لأبي زبيد أيضا، وكذلك في (التاج)- لكن محقق القرطبي قال: هو لأبي زيد الطائي، ولعله خطأ مطبعي، والصواهل: جمع الصاهلة، مصدر على فاعلة، من الصهيل وهو الصوت، والشاعر يصف وقع المساحي في =الحجارة، وما تحدثه من صوت، والسلام- بكسر السين-: الحجر، والقسيّات – بفتح القاف: الدراهم الزائفة، والصياريف: الذين يبدلون الدراهم.
[4493]:- البيت لمزرّد، كما في (اللسان)- والرواية فيه: "فما زودوني" وسحق عمامة: يريد عمامة خلقة بالية- من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا كقولهم: سحق ثوب، وجرد ثوب، وسمل ثوب: أي ثوب خلق.
[4494]:- من الآية (79) من سورة (البقرة).
[4495]:- من قوله تعالى في الآية (5) من سورة (الحاقة): {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}.
[4496]:- هذا البيت للكلابي، وهو فيه يخاطب "قرينا" أخا "عمير الحنفي"، وكان له عنده دم- وقبله: أقرين إنك لو رأيت فوارسي َنَعما يبتن إلى جوانب َصْلقع
[4497]:-وهو قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}، وقيل: منسوخ بآية السيف، وقيل بقوله: {وإما تخافنّ من قوم خيانة}- وقال ابن جرير: يجوز أن يعفو عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمتنعوا من أداء جزية، وقيل: الضمير عائد على من آمن منهم، أي: عائد على المستثنين وهم القليل، والله أعلم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم } قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم } [ النساء : 155 ] ، وقوله : { فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات } في سورة النّساء ( 160 ) .

واللعن هو الإبعاد ، والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق .

{ وجَعلنا قلوبهم قاسية } قساوة القلب مجاز ، إذْ أصلها الصلابة والشدّة ، فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] . وقرأ الجمهور : { قاسية } بصيغة اسم الفاعل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { قَسِيَّة } فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو .

وجملة { يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه } استئناف أو حال من ضمير { لَعنّاهم } . والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف ، والحرف هو الجانب . وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك ، والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم ، وصراطاً سوياً ، وسواء السبيل ، وجادّة الطريق ، والطريقة الواضحة ، وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المراوغة ، والانحراف ، وقالوا : بنيَّات الطريق ، ويعْبُد الله على حرف ، ويشعِّبُ الأمور . وكذلك ما هنا ، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية . وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى ، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة ، قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم . وعن ابن عبّاس : ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل . وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النساء ( 46 ) . وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم .

وجملة { ونسوا حظّاً } معطوفة على جملة { يحرّفون } . والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً . وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ، فإذا حصل مضى ، حتّى يُذكّره مُذكِّر . وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى .

والحظّ النصيب ، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ . وما ذكّروا به هو التّوراة .

وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ، والغرور بسوء التأويل ، والنسيان الناشىءُ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به .

والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها . وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها ، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس : يجوز أن يقال : هو دين الله ، ولا يجوز أن يُقال : قاله الله .

وقوله : { ولا تزال تطّلع على خائنة منهم } انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل { لا تزال } يدلّ على استمرار ، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال : يدوم اطّلاعك . فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر ، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه ، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم .

والاطّلاع افتعال من طَلع . والطلوع : الصعود . وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة ، إذ ليس فعله متعدّياً حتّى يصاغ له مطاوع ، فاطّلع بمنزلة تطّلع ، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف . والمعنى : ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم .

والخائنة : الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة ، كالعاقبة ، والطاغية . ومنه { يعلم خائنة الأعين } [ غافر : 19 ] . وأصْل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد ، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن . وقيل : { خائنة } صفة لمحذوف ، أي فرقة خائنة .

واستثنى قليلاً منهم جُبلوا على الوفاء ، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب ، قال تعالى : { وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } [ الأحزاب : 26 ] . وأمْره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق ، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبيء صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية ، فلا يعارض هذا قوله في براءة { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة ، فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة .