في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ} (11)

وهي حال لا يتأتى معها كذب في الرؤية ، ولا تحتمل مماراة أو مجادلة : ( ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ) . . ورؤية الفؤاد أصدق وأثبت ، لأنها تنفي خداع النظر . فلقد رأى فتثبت فاستيقن فؤاده أنه الملك ، حامل الوحي ، رسول ربه إليه ، ليعلمه ويكلفه تبليغ ما يعلم . وانتهى المراء والجدال ، فما عاد لهما مكان بعد تثبت القلب ويقين الفؤاد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ} (11)

وقوله تعالى : { ما كذب الفؤاد ما رأى } قرأ جمهور القراء بتخفيف الذال على معنى لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى ، بل صدقه وتحققه نظراً ، و { كذب } يتعدى ، وقال أهل التأويل ومنهم ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد الله تعالى بفؤاده . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «جعل الله نور بصري في فؤادي ، فنظرت إليه بفؤادي »{[10689]} .

وقال آخرون من المتأولين المعنى : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى ، وقال ابن عباس فيما روي عنه وعكرمة وكعب الأحبار إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه . بسط الزهراوي هذا الكلام عنهم وأبت ذلك عائشة ، وقالت : أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات ، فقال لي : «هو جبريل فيها كلها »{[10690]} . وقال الحسن المعنى : ما رأى من مقدورات الله وملكوته . وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : «هو نور أنى أراه »{[10691]} ، وهذا قول الجمهور ، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن . وقرأ ابن عامر فيما روى عنه هشام : «ما كذّب » بشد الذال ، وهي قراءة أبي رجاء وأبي جعفر وقتادة والجحدري وخالد ، ومعناه بين على بعض ما قلناه ، وقال كعب الأحبار : إن الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين موسى ومحمد ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين ، وقالت عائشة رضي الله عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا وتلت : { لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار }{[10692]} [ الأنعام : 103 ] . وذهبت هي وابن مسعود وقتادة وجمهور العلماء إلى أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين : في الأرض وعند سدرة المنتهى ليلة الإسراء ، وقد ذكرتها في سورة «سبحان » وهي مشهورة في الكتب الصحاح .

وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آيها وأمال عاصم في رواية أبي بكر : «رأى » . وقرأ نافع وأبو عمرو بين الفتح . وأمال حمزة والكسائي جميع ما في السورة ، وأمال أبو عمرو فيما روى عنه عبيد : «الأعلى » و : «تدلى » .


[10689]:هذا جزء ورد في آخر حديث الخصومات من رواية لابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال عنها ابن كثير: فيها زيادة غريبة، وبعد أن نقل الحديث قال:وإسناده ضعيف، وحديث الخصومات أخرجه الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه، وقال عنه الإمام ابن كثير:"وهو حديث المنام المشهور"، يعني أن الرؤيا التي وردت فيه كانت مناما، وكذلك أخرجه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي، وقال الحسن: صحيح، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس أيضا وفي أوله:(أتاني ربي الليلة في أحسن صورة-أحسبه يعني في النوم-)، أما رواية ابن جرير التي فيها هذا الجزء الذي ذكره ابن عطية فهي كما في تفسير الطبري:(رأيت ربي في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا يا رب، فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات والأرض، فقلت: يا رب في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجمعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فقلت: يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وفعلت وفعلتَ، فقال: ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم افعل بك؟ ألم أفعل؟ قال: فأفضى إليّ بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها، قال: فذلك قوله في كتابه يحدثكموه:{ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى}، فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي).
[10690]:هذا جزء من حديث أخرجه البخاري في تفسير سورة النجم، ومسلم في الإيمان، وأحمد في مسنده(6-49)، والترمذي في تفسير سورة النجم، وهو عن مسروق، وزاد السيوطي في "الدر المنثور" نسبته إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه عن الشعبي، ولفظه كما جاء في صحيح مسلم: قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة-وهذه كنية الإمام مسروق-ثلاث من تكلم بواحدة فيهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل:{ولقد رآه بالأفق المبين}، {ولقد رآه نزلة أخرى}، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عِظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}، أو لم تسمع أن الله يقول:{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم}. قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:{قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله}.
[10691]:أخرجه مسلم في الإيمان، والترمذي في التفسير، وأحمد في مسنده(5-157، 171، 175)ن عن عبد الله بن شقيق، ولفظه كما جاء في صحيح مسلم(عن ابي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟)، قال شراح الحديث: المعنى: حِجابه نور فكيف أراه؟ وقال بعضهم: المعنى: إن النور منعني من الرؤية.
[10692]:راجع الهامش(1) من صفحة(93) فهو نفس الحديث. والآية من سورة (الأنعام). ورقمها(103).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ} (11)

الأظهر أن هذا ردّ لتكذيب من المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الملَك جبريل وهو الذي يؤذن به قوله بعد : { أفتمارونه على ما يرى } .

واللام في قوله : { الفؤاد } عوض عن المضاف إليه ، أي فؤاده وعليه فيكون تفريع الاستفهام في قوله : { أفتمارونه على ما يرى } استفهاماً إنكارياً لأنهم مَارَوْه .

ويجوز أن يكون قوله : { ما كذب الفؤاد ما رأى } تأكيداً لمضمون قوله : { فكان قاب قوسين } [ النجم : 9 ] فإنه يؤذن بأنه بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم لرفع احتمال المجاز في تشبيه القرب ، أي هو قرب حسي وليس مجرد اتصال رُوحاني فيكون الاستفهام في قوله : { أفتمارونه على ما يرى } مستعملاً في الفرض والتقدير ، أي أفستكذبونه فيما يرى بعينيه كما كذبتموه فيما بلغكم عن الله ، كما يقول قائل : « أتحسبني غافلاً » وقول عمر بن الخطاب للعباس وعليّ في قضيتهما « أتحاولان مني قضاءً غير ذلك » .

وقرأ الجمهور { ما كذب } بتخفيف الذال ، وقرأه هشام عن ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الذال ، والفاعل والمفعول على حالهما كما في قراءة الجمهور .

والفؤاد : العقل في كلام العرب قال تعالى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } [ القصص : 10 ] .

والكذب : أطلق على التخييل والتلبيس من الحواس كما يقال : كذبته عينه .

و { ما } موصولة ، والرابط محذوف ، وهو ضمير عائد إلى { عبده } في قوله : { فأوحى إلى عبده } [ النجم : 10 ] أي ما رآه عبده ببصره .