اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ} (11)

قوله : «مَا كَذَبَ » قرأ هشامٌ وأبو جَعْفَر بتشديد الذال والباقون بتخفيفها{[53432]} .

فأما الأولى فإن معناها أن ما رآه محمد بعينه صدَّقه قلبهُ ولم ينكره أي لم يقل : لم أعرفْكَ و( ما ) مفعول به موصولة والعائد محذوف ففاعل ( رأى ) ضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأما قراءة التخفيف فقيل كذلك . و«كَذَبَ » يتعدى بنفسه وقيل : هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه قاله مكي{[53433]} وغيره{[53434]} فأسقط حرف الصفة ، قال حسان :

لَوْ كُنْتِ صَادِقَة الَّذِي حَدَّثْتِنِي *** لَنَجوْتُ مَنْجَى الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ{[53435]}

أي في الذي حدثتني .

وجوز في ( ما ) وجهين{[53436]} آخرين :

أحدهما : أن يكون بمعنى الذي .

والثاني : أن تكون مصدرية ويجوز أن يكون فاعل ( رأى ) ضميراً يعود على الفؤاد أي لم يشك قلبه فيما رآه بعَيْنِهِ{[53437]} .

فصل

قال الزمخشري معناه : أن قلبه لم يكذب وما قال إن من يراه بصرك ليس بصحيح ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباٌ فيما قاله{[53438]} فما كذب الفؤاد . هذا على قراءة التخفيف ، يقال : كَذَبَهُ إِذَا قال له الكَذِبَ .

وأما قراءة التشديد فمعناه ما قال : إن المرئيَّ خيالٌ لا حقيقةٌ{[53439]} .

وأما الرائي فقيل : هو الفؤاد كأنه تعالى قال : ما كذب الفؤادُ ما رآه الفؤاد أي لم يقل : إنه هاجس شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح . وقيل : الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر خيال . وقيل : ما كذب الفؤاد وما رأى محمد - عليه الصلاةُ والسلامُ - وعلى هذا فالمراد بالفؤاد الجنس ؛ أي القلوب شهدت بصحة ما رآه محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وأمَّا المرئي فقيل : هو الرب تعالى . وقيل : جبريل - عليه الصلاة والسلام - وقيل : الآيات العجيبةُ الإلهيَّة . فالقائل بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - هو ابنُ مسعودٍ وعائشةُ - رضي الله عنهما - ومن قال بأن المرئيَّ هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية ، فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده . وهو قول ابن عباس ، قال : رآه بفؤاده مرتين { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } . وقال أنس والحسن وعكرمة : رأى محمدٌ ربَّه بعينيه . وروى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله{[53440]} عنهما ) قال : «إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إبْرَاهيمَ بالخلَّةِ ، واصْطَفَى مُوسَى بالكَلاَم ، واصْطَفَى مُحَمَّداً بالرُّؤْيَةِ - صلى الله عليه وسلم » . وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول : لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم - ربه . وتحمل الرؤية على رؤية جبريل . وقال مسروق : قلت لعائشة : يا أمَّتاه هل رأى محمدٌ رَبَّه ؟ فقالت : لقد قفَّ شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ ، من حَدَّثَكَ أنَّ محمداً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأتْ : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الأنعام : 103 ] { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ومن حَدَّثَك أنه يَعْلم مَا في غَدٍ فقد كَذَب ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } [ لقمان : 34 ] ومن حدّثك أنه كَتَم شيئاً مما أنْزل الله فقد كذب ثم قرأت : { يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } الآية [ المائدة : 67 ] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين . وروى أبو ذر قال : «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك قط ؟ قال : نُورٌ أنَّى أَرَاهُ »{[53441]} .


[53432]:وهي سبعية متواترة. وانظر الكشف 2/294.
[53433]:المشكل له 2/331.
[53434]:كأبي حيان في البحر 8/158، والقرطبي في الجامع 17/93.
[53435]:من الكامل له –رضي الله عنه- وهو في القرطبي 17/93 وإعجاز القرآن للباقلاني 180. وشاهده: أن ما موصولة قد حذف حرف الجر الداخل عليها كما أخبر هو أعلى في التقدير، و"ما" هنا قبل التقدير في موضع نصب على نزع الخافض.
[53436]:كذا في النسختين بالنصب فإن كان يقصد مكيًّا فهو كذب أو تكرير حيث تحدث قبل عن موصولية "ما"، وإن كان يقصد الرفع على نائب الفاعل فإن الكلمة تصبح خطأ.
[53437]:وانظر المشكل لمكي السابق 2/331 والتبيان 1187.
[53438]:باللفظ من الرازي 28/289 وبالمعنى من الكشاف 4/29.
[53439]:وهو قول الرازي في مرجعه السابق.
[53440]:زيادة من (أ).
[53441]:وانظر في هذه الآثار تفسيري البغوي والخازن لباب التأويل ومعالم التنزيل 6/257 إلى 259.