ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة ، ويزيدها وضوحا . فالنص الأول : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . . قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم ! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه :
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) . .
فالتحذير هنا أشد وأدق ؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته . . فهي فتنة يجب أن تحذر . . والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل الله كاملا ؛ أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر الله منها .
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر ؛ فيهون على رسول الله [ ص ] أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة ، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا ؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله [ في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام ] :
( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم . وإن كثيرا من الناس لفاسقون )
فإن تولوا فلا عليك منهم ؛ ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته . ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك . . فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم . فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض : لا أنت ولا شريعة الله ودينه ؛ ولا الصف المسلم المستمسك بدينه . . ثم إنها طبيعة البشر : ( وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) فهم يخرجون وينحرفون . لأنهم هكذا ؛ ولا حيلة لك في هذا الأمر ، ولا ذنب للشريعة ! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق !
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة ؛ لغرض من الأغراض ؛ في ظرف من الظروف . .
{ وأن احكم } معطوف على { الكتاب } في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب } [ المائدة : 48 ] ، وقال مكي : وهو معطوف على «الحق » في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } [ المائدة : 48 ] ، والوجهان حسنان ، ويقرأ بضم النون من «أنُ احكم » مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع ، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين ، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وقد تقدم ذكر ذلك ، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة ، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه ، وقد يجيء أحياناً مقيداً بما فيه خير ، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر : فهوى رسول الله رأي أبي بكر ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك ؟ قال : حق وافق هوى ، والهوى مقصور ووزنه فعل ، ويجمع على أهواء ، والهواء ممدود ويجمع على أهوية ، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم «أن يفتنوه » أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام ، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له مراراً احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك ، وقوله تعالى : { فإن تولوا } قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم ، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله { الفاسقون } ، قوله تعالى : { فاعلم } الآية وعد للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم ، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا ، فلذلك خصص البعض دون الكل ، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة ، وقوله تعالى : { وإن كثيراً من الناس لفاسقون } إشارة إليهم ، لكن جاءت العبارة تعمهم وغيره ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولٍّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.