في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (69)

وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن " الدين " الذي يقبله الله من الناس ، أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير ؛ والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ :

( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والصابئون ، والنصارى . . من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .

والذين آمنوا هم المسلمون . والذين هادوا هم اليهود . والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول [ ص ] وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة ، ومنهم من العرب أفراد معدودون . والنصارى هم أتباع المسيح - عليه السلام .

والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة ، فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - ومفهوم ضمنا في هذا الموضع ، وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير - فقد نجوا : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . . ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ؛ ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات . . فالمهم هو العنوان الأخير . .

وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من " المعلوم من الدين بالضرورة " . فمن بديهيات هذه العقيدة ، أن محمدا [ ص ] هو خاتم النبيين ، وأنه أرسل إلى البشر كافة ، وأن الناس جميعا - على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم - مدعوون إلى الإيمان بما جاء به ، وفق ما جاء به ؛ في عمومه وفي تفصيلاته . وأن من لا يؤمن به رسولا ، ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا ، فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين ، ولا يدخل في مضمون قوله تعالى : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .

وهذه هي الحقيقة الأساسية " المعلومة من الدين بالضرورة " التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ؛ أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية . والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ؛ من أصحاب الملل والنحل . فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على " دين " يرضاه الله ؛ ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه !

إنما الله هو الولي ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) مهما تكن ظواهر الأمور . . ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين - فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة . . لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة . ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة . . ولا هم يحزنون . . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (69)

{ الذين } لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل ، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم ، وبينت الطوائف على اختلافها ، وهذا تأويل جمهور المفسرين ، وقال الزجاج المراد بقوله : { إن الذين آمنوا } المنافقون ، فالمعنى أن الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم .

قال القاضي أبو محمد : فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان ، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعلى التأويل الأول ويكون قوله { من آمن } في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر ، وقد تقدم تفسير { هادوا } وتفسير «الصائبين » وتفسير { النصارى } في سورة البقرة ، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و «الصابئون » بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة ، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين » وهذه قراءة بينة الإعراب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون » بكسر الباء وضم الياء دون همز وقد تقدم في سورة البقرة وأما قراءة الجمهور «والصابئون » فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به ، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون والنصارى » كذلك ، وأنشد الزجاج نظيراً في ذلك :

وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق{[3]}

فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك ، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا : و { الصابئون } عطف على { الذين } ، إذ الأصل في { الذين } الرفع وإذ نصب { إن } ضعيف{[4]} وخطأ الزجّاج هذا القول وقال : { إن } أقوى النواصب ، وحكي أيضاً عن الكسائي أنه قال و { الصابئون } عطف على الضمير في { هادوا } والتقدير هادوا هم الصابئون ، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا ، وقيل إن معنى نعم ، وما بعدها مرفوع بالابتداء{[5]} ، وروي عن بعضهم أنه قرأ «والصابئون » بالهمز ، واتصال هذه الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة ، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه .


[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.