يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - وكشف الانحراف فيما يعتقدون ، وكشف السوء فيما يصنعون ؛ في تاريخهم كله - وبخاصة اليهود - كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وب إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول [ ص ] أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا ، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق . . هذا ، وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة . . والله يتولى حمايته وعصمته من الناس ، ومن كان الله له عاصما فماذا يملك له العباد المهازيل !
إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم ! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة ؛ وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء ؛ وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل ؛ فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء ؛ ولا تراعي مواقع الرغبات ؛ إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ . .
وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى . . وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان ؛ وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة !
( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) . .
وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة . . والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها ، لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق !
إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة ، لا يعني الخشونة والفظاظة ؛ فقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة - وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة - والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق . فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه . والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة ، وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها . فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول . . ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول [ ص ] يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة ، فكان مأمورا أن يقول : ( يا أيها الكافرون : لا أعبد ما تعبدون . . ) فيصفهم بصفتهم ؛ ويفاصلهم في الأمر ، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه ، ولا يدهن فيدهنون ، كما يودون ! ولا يقول لهم : إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه ، بل يقول لهم : إنهم على الباطل المحض ، وإنه على الحق الكامل . . فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة ، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة . .
وهذا النداء ، وهذا التكليف ، في هذه السورة :
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . . إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) . .
وقوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } إلى قوله { على القوم الكافرين } هذه الآية أمر من الله ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال . لأنه قد كان بلغ ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد ، وذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد حالهم فكان يلقى منهم عنتاً وربما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية ، فقال الله له { بلغ ما أنزل إليك من ربك } أي كاملاً متمماً ، ثم توعده تعالى بقوله : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } ، أي إنك إن تركت شيئاً فكأنما قد تركت الكل ، وصار ما بلغت غير معتدّ به ، فقوله تعالى : { وإن لم تفعل } معناه وإن لم تستوف ، ونحو هذا قول الشاعر :
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلاً *** فسيان لا ذم عليك ولا حمد{[4619]}
أي ولم تعط ما يعد نائلاً ، وإلا فيتكاذب البيت ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «فما بلغت رسالته » على الإفراد ، وقرؤوا في الأنعام { حيث يجعل رسالته }{[4620]} على الجمع ، وكذلك في الأعراف { برسالاتي }{[4621]} ، وقرأ ابن كثير في المواضع الثلاثة بإفراد الرسالة ، وقرأ نافع «رسالاته » بالجمع ، وكذلك في الأنعام ، وأفرد في الأعراف ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بجمع الرسالة في المواضع الثلاثة ، وروى حفص عن عاصم الإفراد في العقود والأنعام ، والجمع في الأعراف ، فمن أفرد الرسالة فلأن الشرع كله شيء واحد وجملة بعضها من بعض ، ومن جمع فمن حيث الشرع معان كثيرة وورد دفعاً في أزمان مختلفة ، وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : من زعم أن محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية ، والله تعالى يقول : { يا أيها الرسول } الآية{[4622]} ، وقال عبد الله بن شقيق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعقبه أصحابه يحرسونه ، فلما نزلت { والله يعصمك من الناس } خرج فقال : يا أيها الناس ألحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني ){[4623]} وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت : { والله يعصمك من الناس } بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله به .
قال القاضي أبو محمد : هو غورث بن الحارث ، والقصة في غزوة ذات الرقاع{[4624]} ، وقال ابن جريج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فلما نزلت هذه الآية إلى قوله { والله يعصمك من الناس } استلقى وقال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثاً{[4625]} .
و{ يعصمك } معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية ، ومنه قوله تعالى : { يعصمني من الماء }{[4626]} ومنه قول الشاعر :
فقلت عليكم مالكاً إن مالكاً . . . سيعصمكم إن كان في الناس عاصم{[4627]}
وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه ، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية ، وقوله تعالى : { لا يهدي القوم الكافرين } إما على الخصوص فيمن سبق في علم لا يؤمن ، وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر ، ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.