وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب ؛ والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين ؛ وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية ، مشرقة الآفاق ، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة ؛ التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها ؛ وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها !
( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ ) . .
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء :
( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ؟
هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات :
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة ، التي لا كفاء لها من شكر العبد ، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء .
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية . إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها . لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء . فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات !
وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء . وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد . وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله . .
وقوله تعالى : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } الآية { فتنا } معناه في هذه الآية : ابتلينا ، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدراً ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة و { ليقولوا } معناه ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا ، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً }{[4931]} أي ليصير مثاله أن يكون لهم عدواً وقول المشركين على هذا التأويل { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } هو على جهة الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في { ليقولوا } على بابها في لام ( كي ) وتكون المقالة منهم استفهاماً لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم ، فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن هدي .
قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج ، و[ منّ ] على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين ، أي هؤلاء منّ الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة ، وقوله { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب ، فالله أعلم بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة{[4932]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.