في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ مَا عَلَيۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ فَتَطۡرُدَهُمۡ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (52)

50

( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .

لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله ؛ فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء ؛ يريدون وجهه سبحانه ! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه . . وهي صورة للتجرد ، والحب ، والأدب . . فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء . وهو لا يبغي وجه الله ، إلا إذا تجرد . وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب . وهو لا يفرد الله - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب ، وصار ربانيا يعيش لله وبالله . .

ولقد كان أصل القصة أن جماعة من " أشراف " العرب ، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام ؛ لأن محمدا [ ص ] يؤوي إليه الفقراء الضعاف ، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود . . ومن إليهم . . وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ؛ ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد ! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله [ ص ] أن يطردهم عنه . . فأبى . . فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر ، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف ، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي ! فهم [ ص ] رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه . فجاءه أمر ربه :

( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .

روى مسلم عن سعد بن أبى وقاص ، قال : كنا مع النبي [ ص ] ستة نفر . فقال المشركون للنبي [ ص ] : اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا ! قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان لست أسميهما . . فوقع في نفس رسول الله [ ص ] ما شاء الله أن يقع . فحدث نفسه . فأنزل الله عز وجل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .

ولقد تقول أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف ، الذين يخصهم رسول الله [ ص ] بمجلسه وبعنايته ؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله [ ص ] من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام . . فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا :

( ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم فتكون من الظالمين )

فإن حسابهم على أنفسهم ، وحسابك على نفسك . وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله ، لا شأن لك به . كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به . ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه . فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله ، ولا تقوم بقيمة . . فكنت من الظالمين . . وحاشا لرسول الله [ ص ] أن يكون من الظالمين !

وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله [ ص ] وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم ؛ والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه . واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . .

عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون : كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء ؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه ؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم ! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمن الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ مَا عَلَيۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ فَتَطۡرُدَهُمۡ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (52)

المراد ب { الذين } ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء ، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك ، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود{[4926]} ، وقيل : إنما قال هذه المقالة أبو طالب على جهة النصح للنبي صلى الله عليه وسلم قال له : لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك ، وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك ، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة ، فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمُر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت الآية ، وقال ابن عباس : إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة ، ويكونون هم موضعهم ، ويؤمنون إذا طرد هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية ، أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا منك مجلساً ، لا يخالطنا فيه العبيد والحلفاء ، واكتب لنا كتاباً ، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنزلت هذه الآية{[4927]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد في نزول الآية ، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة ، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم ، ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة اللهم إلا أن تكون الآية مدنية ، قال خباب رضي الله عنه : ثم نزلت { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } [ الأنعام : 54 ] الآية فكنا نأتي فيقول لنا : سلام عليكم ونقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم }{[4928]} الآية فكان يقعد معنا ، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم و { يدعون ربهم بالغداة والعشي } قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشياً وقيل : بل قوله : { بالغداة والعشي } عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به ، كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلا ، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت والمراد على هذا التأويل قيل ، هو الصلوات الخمس ، قاله بن عباس وإبراهيم ، وقيل : الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها ، وقال بعض القصاص : إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشياً فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا : إنما الآية في الصلوات في الجماعة ، وقيل : قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر ، ذكره الطبري ، وقيل العبادة قاله الضحاك : وقرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر «بالُغدوة والَعشي » ، وروي عن أبي عبد الرحمن «بالغدو » بغير هاء ، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات والعشيات » بألف فيهما على الجمع ، وغدوة : معرفة لأنها جعلت علماً لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف ، والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة ، وحملاً على ما حكاه الخليل أنه يقال : لفيته اليوم غدوة منوناً ، ولأن فيها مع تعيين اليوم ، إمكان تقدير معنى الشياع ، ذكره أبو علي الفارسي و { وجهه } في هذا الموضع معناه جهة التزلف إليه كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة . { وما عليك من حسابهم من شيء }{[4929]} معناه لم تكلف شيئاً غير دعائهم فتقدم أنت وتؤخر ، ويظهرأن يكون الضمير في { حسابهم } و { عليهم } للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين ، أي ما عليك منهم آمنوا أو كفروا فتطرد هؤلاء رعياً لذلك ، والضمير في «تطردهم » عائد على الضعفة من المؤمنين ، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبداً سبب ما قبلها ، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين ، وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا ، أي لا ترزقهم ولا يرزقونك .

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين ، وذكره المهدوي ، وذكر عن الحسن أنه من حساب عملهم كما قال الجمهور ، و { ما عليك } وقوله : { فتكون } جواب النهي في قوله : { ما عليك } { فتطردهم } جواب النهي في قوله : { ولا تطرد } و { من الظالمين } ، معناه يضعون الشيء غير مواضعه{[4930]} .


[4926]:- أخرجه أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية- عن عبد الله بن مسعود- قال: مرّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} إلى قوله: {والله أعلم بالظالمين}- (الدر المنثور 3-12، 13). هذا وقد روي مثل هذا الحديث عن عكرمة، وعن خباب، وعن مجاهد، وعن الربيع بن أنس.
[4927]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجة، وأبو يعلى، وأبو نعيم في الحلية، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل- عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزراري فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة، ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بهذه الآية: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} إلى قوله: {فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة} فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} الآية، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد (ذلك) فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. (الدر المنثور).
[4928]:- من الآية (28) من سورة (الكهف).
[4929]:- من اللطائف الدقيقة ما ذكره صاحب "البحر المحيط" هنا حيث قال: "وانظر إلى حسن اعتنائه تعالى بنبيه وتشريفه بخطابه حيث بدأ به في الجملتين معا فقال: {ما عليك من حسابهم من شيء} ثم قال: {وما من حسابك عليهم من شيء} فقدم خطابه في الجملتين، وكان مقتضى التركيب الأول- لو لوحظ- أن يكون التركيب الثاني: "وما عليهم من حسابك من شيء" لكنه قدم خطاب الرسول وأمره تشريفا له عليهم، واعتناء بمخاطبته، وفي هاتين الجملتين ردّ العجز على الصدر، ومنه قول الشاعر: ليس الذي حللته بمحلل وليس الذي حرمته بمحرم
[4930]:- وحاشا أن يقع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإنما هذا بيان للأحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل الإسلام، وهذا مثل قوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله.