ثم جولة جديدة في قضية التوحيد . تأخذ في أولها صورة القصة ، لتصوير خطوات الإنحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس . وكأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم . . ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها ، وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير . وتختم بتوجيه الرسول [ ص ] إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله ، وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده ، وليه وناصره :
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون ! أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ )
( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) . .
إنها جولة مع الجاهلية في تصوراتها التي متى انحرفت عن العبودية لله الواحد لم تقف عند حد من السخف والضلال ؛ ولم ترجع إلى تدبر ولا تفكير ! وتصوير لخطوات الانحراف في مدارجه الأولى ؛ وكيف ينتهي إلى ذلك الضلال البعيد !
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها . فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها . . أن يتوجهوا إلى الله ربهم ، معترفين له بالربوبية الخالصة ، عند الخوف وعند الطمع . . والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة ، وتركيب الزوجية وطبيعتها :
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) . .
فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها ، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى . وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها . . وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان . ووظيفة الزوجية في تكوينه . وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين منذ أربعة عشر قرناً . يوم أن كانت الديانات المحرفة تعد المرأة أصل البلاء الإنساني ، وتعتبرها لعنة ونجساً وفخاً للغواية تحذر منه تحذيراً شديداً ، ويوم أن كانت الوثنيات - ولا تزال - تعدها من سقط المتاع أو على الأكثر خادماً أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق .
والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار . ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب ، وينتج فيه المحصول البشري الثمين ، ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه . ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة . كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً ، وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف ، أو تكراراً للاختصاصات والوظائف ؛ كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء
وبعد ذلك تبدأ القصة . . تبدأ من المرحلة الأولى . .
فلما تغشاها حملت حملاًخفيفا فمرت به . .
والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين . . ( فلما تغشاها ) . . تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن ؛ وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين . إيحاء " للإنسان " بالصورة " الإنسانية " في المباشرة . وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة ! . . كذلك تصوير الحمل في أول أمره ( خفيفاً ) . . تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه .
( فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
لقد تبين الحمل ، وتعلقت به قلوب الزوجين ، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً . . إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم ، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب . . وعند الطمع تستيقظ الفطرة ، فتتوجه إلى الله ، تعترف له بالربوبية وحده ، وتطمع في فضله وحده ، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود . لذلك ( دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
وقوله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } الآية ، قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام بقوله : { وجعل منها زوجها } حواء وقوله { منها } يريد ما تقدم ذكره من أن آدم نام فاستخرجت قصرى أضلاعه وخلقت منها حواء وقوله : { ليسكن إليها } أي ليأنس ويطمئن ، وكان هذا كله في الجنة ، ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطها ، فقال : { فلما تغشاها } أي غشيها وهي كناية عن الجماع ، و«الحمل الخفيف » هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ، وقرأ جمهور الناس «حَملاً » بفتح الحاء ، وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير «حِملاً » بكسر الحاء ، وقوله { فمرت به } أي استمرت به ، قال أيوب : سألت الحسن عن قوله : { فمرت به } فقال : لو كنت امرأً عربياً لعرفت ما هي إنما المعنى فاستمرت به .
قال القاضي أبو محمد : وقدره قوم على القلب كأن المراد فاستمر بها كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي ، وقرأ يحيى بن يعمر وابن عباس فيما ذكر النقاش «فمرَت به » بتخفيف الراء ، ومعناه فشكت فيما أصابها هل هو حمل أو مرض ونحو هذا ، وقرأ ابن عباس «فاستمرت به » وقرأ ابن مسعود «فاستمرت بحملها » وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي «فمارت به » معناه أي جاءت به وذهبت وتصرفت ، كما تقول مارت الريح موراً ، و { أثقلت } دخلت في الثقل كما تقول : أصبح وأمسى أي صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن ، والضمير في { دعوا } على آدم وحواء .
وروي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدرِ ما هو ، وهذا يقوي قراءة من قرأ «فمرَت به » بتخفيف الراء ، فجزعت لذلك فوجد إبليس إليها السبيل ، فقال لها ما يدريك ما في جوفك ، ولعله خنزير أو حية أو بهيمة في الجملة وما يدريك من أين يخرج أينشق له بطنك فتموتين أو على فمك أو أنفك ؟ ولكن إن أطعتني وسميته عبد الحارث .
قال القاضي أبو محمد : والحارث اسم إبليس ، فسأخلصه لك وأجعله بشراً مثلك ، وإن أنت لم تفعلي قتلته لك ، قال فأخبرت حواء آدم فقال لها ذلك صاحبنا الذي أغوانا في الجنة ، لا نطيعه ، فلما ولدت سمياه عبد الله ، فمات الغلام ، ويروى أن الله سلط إبليس على قتله فحملت بآخر ففعل بها مثل ذلك فحملت بالثالث فلما ولدته أطاعا إبليس فسمياه عبد الحارث حرصاً على حياته ، فهذا هو الشرك الذي جعلا لله أي في التسمية فقط .
و { صالحاً } قال الحسن معناه غلاماً ، قال ابن عباس : وهو الأظهر بشراً سوياً سلياً ، ونصبه على المفعول الثاني وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي أتيا صالحاً ، وقال قوم إن المعنى في هذه الآية التبيين عن حال الكافرين فعدد النعم التي تعم الكافرين وغيرهم من الناس ، ثم قرر ذلك بفعل المشركين السيّىء فقامت عليهم الحجة ووجب العقاب ، وذلك أنه قال مخاطباً لجميع الناس { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } يريد آدم وحواء أي واستمرت حالكم واحداً كذلك ، فهذه نعمة تخص كل أحد بجزء منها ، ثم جاء قوله : { فلما تغشاها } إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً أي هكذا يفعلون فإذا آتاهم الله الولد صالحاً سليماً كما أراده ، صرفاه عن الفطرة إلى الشرك ، فهذا فعل المشركين الذي قامت الحجة فيه باقترانه مع النعمة العامة ، وقال الحسن بن أبي الحسن فيما حكى عنه الطبري : معنى هذه الآية : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } إشارة إلى الروح الذي ينفخ في كل أحد .
قال القاضي أبو محمد : أي خلقكم من جنس واحد وجعل الإناث منه ، ثم جاء قوله : { فلما تغشاها } إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً على ما تقدم من الترتيب في القول الذي قبله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.