فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى :
( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) . .
والأمشاج : الأخلاط . وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح . وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة ، والتي يمثلها ما يسمونه علميا " الجينات " وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان ، لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى . .
خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج ، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية ، ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر . والله سبحانه يعلم ما هو ? وما اختباره ? وما ثمرة اختباره ? ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود ، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود ، وأن تتبعه آثاره المقدرة . ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه .
ومن ثم جعله سميعا بصيرا . أي زوده بوسائل الإدراك ، ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . .
وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها ، وهي خلقته من نطفة أمشاج . . كانت وراءها حكمة . وكان وراءها قصد . ولم تكن فلتة . . كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره . ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة ، والمعرفة والاختبار . . وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة . . بمقدار !
{ إنا خلقنا الإنسان } يعني ولد آدم ، { من نطفة } يعني : مني الرجل ومني المرأة . { أمشاج } أخلاط ، واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين . قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والربيع : يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد ، فماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم فهو من نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة . وقال الضحاك : أراد بالأمشاج اختلاف ألوان النطفة ، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء وصفراء ، ونطفة المرأة خضراء وحمراء وصفراء ، وهي رواية الوالي عن ابن عباس . وكذلك قال الكلبي : قال : { الأمشاج } البياض في الحمرة والصفرة . وقال يمان : كل لونين اختلطا فهو أمشاج . وقال ابن مسعود : هي العروق التي تكون في النطفة . وقال الحسن : نطفة مشجت بدم ، وهو دم الحيضة ، فإذا حبلت ارتفع الحيض . وقال قتادة : هي أطوار الخلق نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظماً ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر . { نبتليه } نختبره بالأمر والنهي ، { فجعلناه سميعاً بصيرا } قال بعض أهل العربية : فيه تقديم وتأخير ، مجازه : فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه ، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة .
قوله تعالى : " إنا خلقنا الإنسان " أي ابن آدم من غير خلاف " من نطفة " أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه :
مالي أراكِ تكرهينَ الجنة *** هل أنت إلا نطفةٌ في شَنَّهْ{[15657]}
وجمعها : نطف ونطاف . " أمشاج " أخلاط . واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ، قال رؤبة :
يَطْرَحْنَ كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِ *** لم يُكسَ جِلْدًا في دمٍ أمشاجِ
ويقال : مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلوط وخليط . وقال المبرد : واحد الأمشاج : مشيج ، يقال : مشج يمشج : إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، قال الشماخ :
طَوَتْ أحشاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ *** على مَشَجٍ سلالتُه مَهِينُ
وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة . ويقال للشيء من هذا إذا خلط : مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة . وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ، قال الهذلي{[15658]} :
كان الرِّيشَ والفُوقَيْنِ منه *** خلافَ النصلِ سِيطَ به مَشِيجُ
وعن{[15659]} ابن عباس أيضا قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة . وقد روي هذا مرفوعا ، ذكره البزار .
وروي عن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة . وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم . ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما ، كما قال في سورة " المؤمنون " " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " [ المؤمنون : 12 ] الآية . وقال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . وقال أهل المعاني : الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ؛ لأنه نعت للنطفة ، كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق . وروي عن أبي أيوب الأنصاري : قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة " البقرة " .
قوله تعالى : " نبتليه " أي نختبره . وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار . وفيما يختبر به وجهان : أحدهما : نختبره بالخير والشر . قاله الكلبي . الثاني : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء . قاله الحسن . وقيل : " نبتليه " نكلفه . وفيه أيضا وجهان : أحدهما : بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل . الثاني : بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي . وروي عن ابن عباس : " نبتليه " : نصرفه خلقا بعد خلق ؛ لنبتليه بالخير والشر . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم " فجعلناه سميعا بصيرا " لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير .
قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة . وقيل : " جعلناه سميعا بصيرا " : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى .
{ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ( 3 ) }
إنا خلقنا الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة ، نختبره بالتكاليف الشرعية فيما بعد ، فجعلناه من أجل ذلك ذا سمع وذا بصر ؛ ليسمع الآيات ، ويرى الدلائل ،
قوله : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه } أي خلق الله الإنسان من بني آدم من ماء { أمساج } أي أخلاط ممتزج بعضه ببعض ، فقد امتزج الماءان وهما ماء الرجل وماء المرأة { نبتليه } أي نختبره بالخير والشر . وقيل : نختبره بالتكاليف ، بالعمل والطاعة ، وبالأوامر والنواهي .
قوله : { فجعلناه سميعا بصيرا } أي جعلناه ذا سمع وبصر ليتمكن بهما من الطاعة والتزام التكاليف تحقيقا للابتلاء .