. . واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل . الحق المتمثل في أشكال الأشياء ، ووظائفها . وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة . وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها . وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد .
سبحانه ! هذه صنعته في كل شيء . هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق . هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان ؛ فلا تجاوز ولا قصور ، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص ، ولا إفراط ولا تفريط ، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة . كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص . ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر . ولا يتجاوز مداه ولا يقصر . . كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام . ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام . كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان . . وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث . وكلها من خلق الله . مقدرة تقديرا دقيقا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها ، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله .
كل شيء ، وكل خلق ، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود ، معد لأداء هذا الدور إعدادا دقيقا ، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل . هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف . هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون . هذه السمكة . هذا الطائر . هذه الزاحفة . هذا الحيوان . . ثم هذا الإنسان . . وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت . وهذه الأفلاك والعوالم ؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام . . كل شيء . كل شيء . حيثما امتد البصر متقن الصنع . بديع التكوين . يتجلى فيه الإحسان والإتقان .
والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير ، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه ؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده . والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن ، يمنح الإنسان رصيدا ضخما من ذخائر الحسن والجمال ، ومن إيقاعات التناسق والكمال ، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق ؛ وتسكبها في القلب البشري ؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن ، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب . ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة .
ولا يدرك القلب شيئا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة ، ومن ملالة الألفة . وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله ، ويتطلع إلى إيحاءاته . و إلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة . وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه ؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع ؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس ، لأنه يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله .
إن هذا الوجود جميل . وإن جماله لا ينفد . وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود . قدر ما يريد . وفق ما يريده له مبدع الوجود .
وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود . فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء ، يصل إلى حد الجمال . وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو ، وفي كل خلق . . انظر . . هذه النحلة . هذه الزهرة . هذه النجمة . هذا الليل . هذا الصبح . هذه الظلال . هذه السحب . هذه الموسيقى السارية في الوجود كله . هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور !
إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين ؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملاها ، ونستمتع بها وهو يقول : ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) . . فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير .
( الذي أحسن كل شيء خلقه ) . . ( وبدأ خلق الإنسان من طين ) . .
ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين . فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة ، وكان في المرحلة الأولى . ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها ، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح . وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة " المؤمنون " . . ( خلق الإنسان من سلالة من طين ) . . فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلا إلى مرحلة الطين .
وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض ؛ وأنها نشأت من الطين . وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله . وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد . لا ما هو . ولا كيف كان . ومن الخلية الحية نشأ الإنسان . ولا يذكر القرآن كيف تم هذا ، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار . فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح ؛ وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين . وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح .
غير أنه يحسن - بهذه المناسبة - تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة : بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية ؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانا فوق القردة العليا ودون الإنسان . . أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة - التي لم يكن دارون قد عرفها - تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل . فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه ؛ وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه ، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد . فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون . والكلب كذلك . والثور . والحصان . والقرد . والإنسان . وكل ما يمكن أن يقع - حسب نظريات الوراثة - هو الارتقاء في حدود النوع نفسه . دون الانتقال إلى نوع آخر . وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام
{ الذي أحسن كل شيء خلقه } خلقة موفرا عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة ، وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته ، و { خلقه } مفعول ثان . وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل . { وبدأ خلق الإنسان } يعني آدم . { من طين } .
خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر ل { عالم الغيب } [ السجدة : 6 ] ، وهو ارتقاء في الاستدلال مشوبٌ بامتنان على الناس أنْ أحْسنَ خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر . والمقصود : أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقاً بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ، وأخرج أصله من تراب ثم كوَّن فيه نظام النسل من ماء ، فكيف تعجزه إعادة أجزائه .
والإحسان : جعل الشي حَسناً ، أي محموداً غير معيب ، وذلك بأن يكون وافياً بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي ؛ فصلابة الأرض مثلاً للسير عليها ، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس ، وتوجه لهيب النار إلى فوقُ لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يميناً وشمالاً لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق .
وقوله { خَلَقَه } قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة ل { شيء } أي : كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيراً منها . وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من { كل شيء } بدل اشتمال . وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلْق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل .
و { الإنسان } أُريد به الجنس ، وبَدْءُ خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الأعراف : 11 ] ، أي : خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم . ويدل على هذا المعنى هنا قوله : { ثم جَعَل نسله من سلالة } فإن ذلك بُدِىء من أول نسل لآدم وحواء ، وقد تقدم خلْق آدم في سورة البقرة . و { من } في قوله { مِن طِين } ابتدائية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.